هذا المقال، كاد ألا يكتب، وذلك لأني كنت مع الأسرة في الشاليه في عطلة نهاية الأسبوع، وقرروا جميعا النزول إلى البحر، وكان إغراء الانضمام إليهم لا يقاوم، فكنت على شفا إرسال رسالة قصيرة إلى الصديق عصام دسوقي مسؤول صفحة المقالات لأعتذر له عن المشاركة بهذه المرة لضيق الوقت، لكن فكرة المقال داهمتني فوجدتها تلح أن تجد طريقها على السطور.

Ad

لطبيعة عملي، وكثرة أنشطتي خارج العمل، منذ سنوات ليست بقليلة، فأنا مشغول جداً، وقد أثر هذا الأمر بطبيعة الحال على حياتي الاجتماعية، وعلى الجانب الأسري على وجه الخصوص. وقد أدركت الأمر بوضوح منذ مدة ليست ببعيدة جداً، وأعترف بهذا. أدركت الأمر عندما كبر أولادي ووصلوا إلى المرحلة العمرية التي صاروا يشاركوني فيها أفكارهم ومشاعرهم، فصرت أسمع منهم وبشكل متكرر، وبطرق غير مباشرة غالباً ومباشرة أحياناً، أني كثير الانشغال. أعترف أني كنت أسمع ذات الأمر من أمهم في السابق، ولكنني كنت مأخوذاً بما كنت أجري خلفه، مأخوذاً بفكرة أن هناك أهدافاً حياتية لابد من تحقيقها ونيلها، فكنت أرد عليها دائما بأني مستغرق في بناء حياتنا، وأني أكد وأتعب لأجلها هي والأولاد، وكان النقاش ينتهي عند ذلك بابتسامة منها، وإن كنت أعلم، لكن أتجاهل، أن خلفها كان يوجد كم كبير من عدم الاقتناع.

لا أدري ما الذي تغير أخيراً في تفكيري ونفسي، ليتغير تفكيري حيال المسألة، لعله التقدم في السن، ومراقبتي لعلاماته وهي تظهر على جسدي، واكتشافي لحقيقة أن ما أجري خلفه سيظل دوما يتناءى حتى ولو بلغته، وأن أهداف الحياة والطموحات لا تنفك تتجدد، وأن إرجائي لعيش حياتي وسعادتي مع أسرتي إلى حين بلوغ تلك الأهداف والطموحات وتحقيقها، سيجعلني أخسر هذه الحياة والسعادة، وأني ما كنت لأعي ذلك إلا بعد فوات الأوان.

كنت أقرأ في كتب الإدارة دوما أن السعادة رحلة نستمتع بتفاصيلها ونحن نسيرها وليست وجهة نقصدها، وكنت أكرر ذلك في المحاضرات والدورات التي أقدمها هنا وهناك، لأكتشف أني كنت في الحقيقة فاقداً لتطبيق هذه القاعدة على صعيد حياتي الشخصية، وأن الزمان كان يسرق مني خفية سنوات هي الأجمل في عمر أولادي، وهم يكبرون وتتشكل أحلامهم وتتلون دلالات الأشياء في نفوسهم وأنا بعيد عنهم. أفقت في لحظة لأكتشف أني أتشارك في بيت مع أفراد عدة لا أعرف الكثير عنهم. لا أعني معرفة الأشياء البرَّانية، التي يفترض بكل رب أسرة معرفتها من حيث تحصيلهم الدراسي ووضعهم الصحي وما شابه، فقد كنت مسيطراً على هذا الجانب بفضل زوجتي التي كانت حريصة على إعلامي بكل شيء وإشراكي به، وإنما أقصد على الصعيد الداخلي وتلك الأشياء "الجوانية"، أي تلك الأشياء التي يحبونها وتلك الأمور التي يحلمون بها، وما السبب في هذا السلوك عند هذا وذاك السلوك عند ذاك وهذه اللازمة في التصرفات عند تلك.

لعل البعض مفاجأ من مسار هذا المقال، لكنني لن أكون كغيري ممن يحاولون تقديم أنفسهم للناس دوماً في صورة مثالية خارقة، فلست سوى إنسان له نجاحاته وإخفاقاته. بل سأكون صريحا أكثر فأقول أني أشعر بأن إخفاقاتي ترجح في ميزان نفسي عن نجاحاتي، لكنني في المقابل أفخر بأني تجربة بشرية متجددة، تغالب مشاكلها وتسعى لإصلاحها. وأنا اليوم مدرك لحقيقة أني كنت في فترة من عمري مقصراً على الصعيد الأسري، وها أنا أنكب لإصلاح ما يمكن إصلاحه واللحاق بقاطرة العمر، للركوب مع أولادي وهم في مقتبل عمرهم، لأصبح صديقاً لهم، يشاركونني مشاعرهم وأفكارهم، والأهم من ذلك يأتمنونني على أسرارهم.

يقول النبي الكريم عليه الصلاة والسلام: "خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي"، ويا لها من نصيحة جامعة. ما قيمة خير ونجاح الإنسان في الخارج، في حين أن بيته يئن ويعاني في الداخل. لنتذكر هذا الأمر دوماً قبل أن يسرق الزمان منا أجمل السنوات في أعمار أولادنا وهم يكبرون ويتشكلون، فلا نفيق إلا وقد صاروا رجالاً ونساء، لا نعرف عنهم الشيء الكثير، وكأنهم أغراب.

أطلت الحديث، لذلك أستأذنكم الآن للحاق بالأولاد في البحر... أسعدكم الله جميعا بأهلكم وأولادكم.