نعم للثوار دورهم الذي لم ولن ينكره أحد، ولكنه لا يسمح لهم بممارسة أسوأ ما في النظام الديمقراطي حين تصر الأقلية على رفض قرار الأغلبية وتمارس «دكتاتورية الأقلية» التي لن يقبلها أحد، فالأسس الديمقراطية التي نسعى إلى ترسيخها يجب أن يلتزم بها الجميع، خاصة الثوار كي لا يربط أحد بين موقفهم ومواقف من التاريخ الإسلامي القديم.

Ad

منذ 1400 عام تقريباً تعرض الخليفة الثالث للمسلمين عثمان بن عفان للاغتيال على يد مجموعة من المسلمين الغاضبين من سوء إدارة ولاته للحكم وفسادهم وظلمهم، وبعد قتله هرب القتلة وتفرقوا بين قبائلهم، وكان من الضروري أن يجتمع المسلمون على خليفة لهم من بعده، واستقر رأي صحابة رسول الله في المدينة وما حولها على الإمام علي بن أبي طالب، وبايعوه على السمع والطاعة، وحذا حذوهم الكثير من ولاة الأمصار، إلا أن معاوية بن أبي سفيان والي الشام– رغم اعترافه بأحقية الإمام علي في الخلافة– رفض البيعة بدعوى ضرورة القصاص من قتلة عثمان أولا، والثأر لدم الخليفة، ومنذ ذلك التاريخ والفتنة قائمة بين المسلمين.

وأصبح " قميص عثمان" تعبيرا شائعا ومتداولا للتعبير عن كل من يصرّ على شيء، ويتمسك به رافضا أي حديث أو فعل (رغم صواب هذا الفعل) قبل تحقيق ما يريده وما يطالب به.

الخوارج: لغة هم من يخرجون على الجماعة ويختلفون عليها، واصطلاحا هم المسلمون الذين خرجوا على رأي الإمام عليّ ورفضوا الصلح بينه وبين معاوية، وأصروا على القتال.

بدأت الثورة المصرية في 25 يناير 2011، وانتهت مرحلتها الأولى بخلع مبارك في 11 فبراير، ومنذ ذلك التاريخ والخلافات لا تنتهي (بقصد أو بحسن نية) حول مسار الثورة، وفي أي اتجاه تسير وما الخطوات القادمة... إلخ؟ وعلى الرغم من أن الاختلاف في الرأي وتباين الآراء يؤدي إلى اختيار الأفضل والأصح فإن التمسك بالرأي والتشبث به والعناد- وهو الموقف الذي يمارسه البعض- حوّل الثورة إلى خلاف دائم وصراع مستمر.

فبعد خلع مبارك، على سبيل المثال، طالب البعض بأن تكون محاكمته أمام محكمة ثورة، وأن تكون محاكمة سياسية على كل ما ارتكبه من فساد وظلم وقهر للشعب استمر عقودا طويلة، لا أن تكون محاكمة جنائية على قتل المتظاهرين أمام قاضيه الطبيعي، ولكن تم رفض ذلك بدعوى حقوق الإنسان والرأي العالمي وضرورة أن يكون الحكم محصنا (بالمحاكمة أمام قاضيه الطبيعي) كي نتمكن من استرداد الأموال المهربة.

واليوم يأتي من رفض محكمة الثورة بالأمس ليطالب بها خوفا من قرار المحكمة القادم وعدم إنصافه لحق الثورة، وأصبح الحديث عن حق الشهداء والقصاص "قميص عثمان" الذي يرتديه البعض من ائتلافات الثورة، رغم إدراكهم أن هذا مطلب الشعب كله، ولن يتنازل عنه أبدا.

ولو تم القصاص فستظهر قضية أخرى يتمسكون بها، ويعاندون لتعطيل المسار، أو بالأدق كي يسير وفق هواهم، وما الحديث حول ضرورة تسليم السلطة والآن إلا نموذج آخر؛ لذلك فلو كان هذا المطلب منذ سنة أو 9 أشهر لكان مقبولا، أما الآن وقبل شهرين فقط من بدء الخطوات الفعلية لتسليم السلطة والإصرار عليه والعناد حوله، فكل ذلك يثير الكثير من الشكوك.

نقطة أخيرة: ما قيمة وضرورة أن تستمر شرعية الميدان بعد انتخاب البرلمان؟ نعم. لا خلاف على شرعية الميدان سابقا في التعبير عن إرادة الشعب ولكن إلى متى؟ من الطبيعي أن تنتهي شرعية الميدان مع انتخاب مجلس نيابي يمثل الشعب كله بجميع طوائفه وتياراته الفكرية المختلفة، والذي هو بالتأكيد أكثر دقة في تمثيل الشعب من الميدان.

وهنا يبدو تساؤل آخر: ماذا لو جاء الرئيس القادم المنتخب من الشعب على غير رغبة الميدان؟ هل سيستمر الميدان في ثورته ويرفض اختيار الشعب؟ باعتبار أن الميدان هو رمز الثورة وسر نجاحها ويجب أن يخضع له الشعب كله؟ هل يعقل هذا؟ وأي ديمقراطية هذه التي تسمح بذلك؟

نعم للثوار دورهم الذي لم ولن ينكره أحد، ولكنه لا يسمح لهم بممارسة أسوأ ما في النظام الديمقراطي حين تصر الأقلية على رفض قرار الأغلبية وتمارس "دكتاتورية الأقلية" التي لن يقبلها أحد، فالأسس الديمقراطية التي نسعى إلى ترسيخها يجب أن يلتزم بها الجميع، خاصة الثوار كي لا يربط أحد بين موقفهم ومواقف من التاريخ الإسلامي القديم.