تخطط الجماعات الدينية المصرية للهيمنة على البلاد بعد الثورة من خلال «الديمقراطية»، التي ستمكنها عبر «الصناديق» من تنفيذ «أجندتها»، وتنتعش آمالها في ذلك بعد هذا الحشد الذي ظهر أول أمس الجمعة، وهو أمر قد يتحقق إن لم تحتشد القوى المدنية المستنيرة، وتحول ضجيجها الزاعق في الإعلام والمنتديات إلى عمل سياسي حاذق على الأرض.

Ad

لا أعرف ما الذي يفكر به الرئيس المصري السابق حسني مبارك في تلك الأيام العصيبة التي يعيشها الآن، لكنني أستطيع أن أرجح أنه ربما يشعر بشيء من الارتياح والتشفي، لأن الثورة التي خلعته من عرشه وأذلته إذلالاً مريراً، تتخبط تخبطاً واضحاً، وقد تنتكس، وتفقد البوصلة والتماسك.

كان الباكون على مبارك يستندون، في المناظرات التي يخوضونها على هامش المجال العام في مصر، إلى أنه «منح البلاد الاستقرار والأمن، وقد غابا فور إطاحته»، لكنهم اليوم سيجدون سنداً جديداً يعزز حجتهم، بعدما ظهرت احتمالات «خطف مصر والعودة بها إلى العصور الوسطى»، على يد بعض «المتأسلمين» الذين لم يكن يُسمع لهم صوت في عهده.

إذا كنت من هؤلاء الذين أتيحت لهم الفرصة لزيارة ميدان التحرير في قلب العاصمة المصرية أول أمس الجمعة، حيث كانت الشمس الحارقة تصب غضباً ساطعاً على مئات الألوف الذين احتشدوا هناك، فلا شك أنك أصبت بالإعياء والدوار، وقد تكون الشكوك راودتك لوهلة في طبيعة المكان وهوية المجتمعين فيه.

لم يكن ميدان التحرير، في الجمعة التي سُميت ادعاء «جمعة وحدة الصف»، كمثله في الأيام السابقة، بل كان أقرب إلى تلك الميادين التي تقع في مدن أفغانستان أو باكستان أو حتى إيران.

ولم تكن الهتافات التي تدوي في الميدان مثل تلك التي اعتادها منذ اندلاع الثورة في 25 يناير؛ إذ حلت شعارات جديدة، هيمنت عليها لغة الإقصاء والاستعلاء والتلويح بالدم، وظهرت أعلام غريبة؛ بعضها غير مصري، بل غابت الأغاني الوطنية التي تغنيها المطربات، وحلت محلها تلك التي تركز على البعد الديني في الشكل والمضمون.

استطاع المنتمون إلى تيارات الإسلام السياسي حشد مئات الآلاف في ميدان التحرير، من خلال عملية لوجستية منظمة تنظيماً جيداً وبإنفاق واسع وسخي، نجح في جلب تلك الحشود من مختلف الأقاليم، لتنفيذ أكبر عملية استعراض عضلات من نوعها منذ اندلاع الثورة.

وانطلقت الشعارات الملتبسة في أرجاء الميدان، ورددتها النسوة المنتقبات مع الرجال البسطاء الملتحين القادمين من الريف في سيارات وفرتها لهم الجماعات الإسلامية، منددين بالقوى الليبرالية التي تريد إرساء قيم فوق دستورية تضمن مدنية الدولة والحريات العامة والفردية، وملوحين بالقبضات الغاضبة ضد «العلمانيين»، الذين يتم تقديمهم في الأوساط الريفية المحافظة على أنهم «ملحدون» عادة.

اللعبة التي تلعبها القوى الإسلامية ليست صعبة على الإطلاق، بل هي شديدة السهولة ومضمونة النتائج في معظم الأحوال.

يمكن فهم قواعد اللعبة من قراءة الشعارات التي رفعت في تظاهرة الجمعة الفائتة، فأوسع المنشورات توزيعاً على الإطلاق كان يحمل العبارة التالية: «لا إله إلا الله... الشعب يريد شرع الله»، وأهم هتاف تم ترديده كان يقول: «ارفع راسك فوق... أنت مسلم»، وأهم لافتة ظهرت كانت تقول: «لا حل إلا الإسلام»، أما الهتاف الأعلى صوتاً، فكان: «بالروح بالدم نفديك يا إسلام».

من السهل بالطبع حشد ملايين البسطاء الذين عانوا كثيراً انسداد الأفق والفقر والتهميش وكبت الحريات إبان النظام المخلوع، وراء أهداف سامية وعامة ترتبط بالإسلام.

فالمصريون شعب متدين بطبعه، ويعد الدين أحد أهم عوامل الضبط والتماسك الاجتماعيين في بلدهم، فضلاً عن أنه الإطار الروحي والقيمي الذي يحول دون الانفلات والتردي الأخلاقي الواسع الذي تعرفه المجتمعات الفقيرة والمأزومة.

من بين المصريين البسطاء لا يحب أن يهتف بالشعار: «لا إله إلا الله»؟ ومن منهم لا يشعر بالفخر لكونه مسلماً، وبالتالي يحب جداً أن يهتف منتشياً: «ارفع راسك فوق... أنت مسلم»؟

ما يفعله قادة الجماعات والأحزاب الدينية هنا ليس أكثر من إضافة عبارة: «الشعب يريد تطبيق شرع الله» إلى العبارتين السابقتين، وبالإضافة إلى ذلك، يتم ترويج شعار: «الإسلام هو الحل»، قبل أن نصل إلى: «بالروح بالدم نفديك يا إسلام».

لعبة سهلة وقديمة جُربت كثيراً، حيث يُخلَط الديني بالدنيوي، والثابت بالمتحول، والمقدس بغير المقدس، والأزلي بالطارئ، من أجل مصلحة تيار سياسي انتهازي، لا يضيره أن يمتهن الدين والسياسة ويخاطر بوحدة البلد وسلمه الأهلي من أجل الوصول إلى السلطة.

قامت ثورة 25 يناير عندما نزل شبان ليبراليون وعلمانيون وطنيون إلى ميدان التحرير للتظاهر ضد نظام مبارك الأمني الغاشم، وحينها امتنع «الإخوان المسلمون» عن المشاركة، وحرّم شيوخ الجماعات السلفية التظاهر، داعين إلى «طاعة الحاكم وعدم الخروج عليه».

وحينما ثبت المتظاهرون الشبان في الميدان، وتزايدت أعدادهم، وظهر أن الثورة لديها حظوظ للنجاح، سارعت الجماعات الدينية إلى ركوب الموجة الثورية والانضمام إليها قبل فوات الأوان.

وإحقاقاً للحق، فإن ركوب الجماعات الدينية المتأخر لموجة الثورة، والانضمام إليها بعد الاطمئنان إلى جديتها ومناعتها، لا يحول دون الاعتراف بأن بعض منسوبي تلك الجماعات أبلى بلاء حسناً في المنعطفات الصعبة التي سبقت تنحي مبارك.

وبعد أن رحبت القوى المدنية، صاحبة الشرارة الأولى، بمشاركة القوى الدينية في مراحل الثورة المختلفة، باعتبارها شريكا أساسيا في العمل الوطني، راحت تلك الأخيرة تحاول الاستئثار بالمشهد، تارة عبر خلط الدين بالسياسة للسيطرة على نتيجة استفتاء 19 مارس، والتمهيد للهيمنة على البرلمان ووضع الدستور، وتارة أخرى عبر محاولة سرقة الثورة وتبديد حلم الدولة المدنية وطرح مشروع الدولة الدينية والتلويح به.

تتكون القوى السياسية ذات الإسناد الإسلامي الراغبة في خطف الثورة المصرية من طيف واسع؛ يبدأ من جماعة «الإخوان» التي يتضح من تاريخها رغبتها العارمة في الوصول إلى الحكم عبر تحالفات أو مساومات مع أي قوة مهما كانت وتحت أي سقف سياسي، ويمر بالجماعات الجهادية التي مارست العنف ضد الدولة المصرية سابقا، قبل أن تراجع نفسها وتتفاهم مع حكومة مبارك، ولا ينتهي عند الجماعات السلفية التي كانت حليفاً للنظام السابق وموطداً لهيمنته، قبل أن تدخل على خط السياسة وتلعب برأسها التطلعات عقب نجاح الموجة الأولى للثورة.

وعلى الرغم من أن تلك القوى لا تبدو موحدة أو جاهزة للتوافق، فإن ما يجمعها الآن هدف واحد، يتمثل بالذهاب إلى الانتخابات بأقصى سرعة ممكنة، وحصد الأغلبية البرلمانية المريحة، التي تمكنها من إعداد دستور شبيه بالدستور الإيراني، وصياغة مجتمع على الطريقة الباكستانية أو السودانية.

تختصر الجماعات الإسلامية المصرية الديمقراطية في فكرة الانتخابات، معتمدة على قدرتها على حشد الملايين من البسطاء المصريين الذين يحبون الله ورسوله، ويعتقدون أن «شرع الله أفضل من شرع البشر»، ولا تؤمن بالطبع بأن الديمقراطية قيم وإجراءات، وأن قيم الديمقراطية تستلزم صيانة الحريات وعلى رأسها حرية التعبير والاعتقاد، كما تكفل المواطنة والمساواة وتكافؤ الفرص بين أبناء الدولة، بصرف النظر عن هويتهم الدينية أو العرقية أو الاجتماعية.

تخطط الجماعات الدينية المصرية للهيمنة على البلاد بعد الثورة من خلال «الديمقراطية»، التي ستمكنها عبر «الصناديق» من تنفيذ «أجندتها»، وتنتعش آمالها في ذلك بعد هذا الحشد الذي ظهر أول أمس الجمعة، وهو أمر قد يتحقق إن لم تحتشد القوى المدنية المستنيرة، وتحول ضجيجها الزاعق في الإعلام والمنتديات إلى عمل سياسي حاذق على الأرض في أعماق البلد، لضمان الفوز بنسبة معقولة من مقاعد البرلمان، وإلا فإن العواقب ستكون وخيمة.

* كاتب مصري