"تستطيع أن تشتري منزلاً ولكنك لا تستطيع أن تشتري بيتاً"، هذه العبارة الحامضة معلقة على جدار أحد البنوك الكندية، وما كتب أسفلها له علاقة بإعلان شراء منزل وتفاصيل إعلانية لا أهمية لها لرجل لا يريد شراء منزل. ولأنني من الذين لا يفكرون في شراء منزل في كندا أو غير كندا فقد اكتفيت من الغنيمة بالاياب وخرجت من البنك والعبارة ترن في رأسي. أدرك أن الذي علقها يقصد اطارا محددا لها، وأنك ربما استطعت شراء منزل بغض النظر عن مساحته، ولكن الصعوبة أن تجعل من هذا المنزل بيتا. فتحويل المكان المصمم هندسيا للسكن الى بيت يتطلب علاقات إنسانية وأسرية حميمة مرتبطة بالاحترام والعطف والحب والمسؤولية والعدالة والعمل وقائمة طويلة من العلاقات الاجتماعية تجعل أغلب البيوت أقرب الى المنازل منها الى البيوت.

Ad

في الطريق الى الخارج جلست أفكر في العبارة أكثر من مرة محاولا تحويرها الى عبارات مماثلة أكثر مرارة، وتخيلت أن أكتب على جدار الوطن من الداخل مثلا "تستطيع أن تشتري بيتا ولكنك لا تستطيع شراء وطن"، فالوطن أيضا كما هو البيت بحاجة الى سلسلة مترابطة من العلاقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية تحكمها العدالة الاجتماعية والمسؤولية والمحبة والعطف والرحمة واللين والقسوة حين تحتاج القسوة للخارجين عن هذه المفاهيم والداعين الى نقيضها.

قد يبدو من السهولة على المرء التعامل مع المنزل الذي يضم أسرة مكونة من عدد من الأفراد، وينجح في اغلب الأحيان الى تحويله الى بيت، ولكنه يقف عاجزا أمام مسألة الوطن. أن تشعر بأن جميع أحلامك في الوطن ممكنة وأنك مطمئن على مستقبل بيتك وأهل بيتك فيه أمر يزداد صعوبة وأنت تصارع بقاءك فيه أو رحيلك عنه. وطن يتصارع الناس على اخراجه منك أو اخراجك منه، وطن لم يعد يتسع للمساحات الممكنة من الاختلاف أو الاتفاق، وطن تسير اليه ويسير به الآخرون بعيدا عنك لا يشعرك بأنك منه ولا تشعر بأنه منك هو ليس أكثر من منزل، كما أشار الاعلان البنكي بكل صدق اليه. هو منزل تستطيع أن تدفع ثمنه ولكنك لا تستطيع ان تجعله بيتك.

الوطن أكبر من البيت بالتأكيد، ولكن حين تصل المفاضلة لدى الفرد بين الأول والثاني يختار بغريزته الثاني، انه يحتاج إلى البيت أكثر من حاجته إلى الوطن وعلى الوطن أن يتكيف لاستيعاب البيت. وفي حالات الاضطراب يلجأ الانسان الى خيمة في الصحراء لتكون بيتا أو يلجأ الى وطن لا يعرفه ولا ينتمي اليه ليكون بيتا وهو يعلم أن الوطن البديل لا يمتلك مقومات الوطن بالنسبة اليه وأنه ليس أكثر من بيت.

وقبل أن أعود الى بيتي كنت أفكر في وطني وأرى وأسمع من بعيد تنازع أهله فيه واختلال العلاقات الاجتماعية والانسانية والسياسية حتى تمكن الخوف من الفرد البسيط الذي يعيش صراعا داخليا بين وهم الحاضر وهموم المستقبل، وهو يفكر في شراء بيت في مكان ما ويعلم أن العبارة "تستطيع شراء بيتا ولكنك لا تستطيع شراء وطن" عبارة لابد منها اذا لم ينتبه القائمون على الوطن اليه.