من بين ما طالعتنا به بعض الأقلام في الصحف بشأن الجدل المثار حول قوة الإلزام في قرارات المحكمة الدستورية بتفسير النصوص الدستورية، مطالبة البعض بأن يكون نقد هذه القرارات متاحاً ومباحاً، كضمانة مهمة تقابل الإلزام بقرارات المحكمة الدستورية، درءاً لما قد تقع فيه المحكمة من أخطاء في تفسير النصوص الدستورية، قد تؤدي إلى تنقيح للدستور.
نقد قرارات وأحكام المحكمة حق ومطلب مشروعذلك إذا كان غايته البحث عن الحقيقة، ولا ينال من مكانة القضاء أو من هيبة رجاله واحترامهم، بل يكون نقداً موضوعياً، مقروناً بأكبر آيات التقدير لرجاله، وقد حملوا رسالة حملها الأنبياء قبلهم، حراساً للعدل عاكفين في محرابه، مسجلين صفحة ناصعة في نصرة الحق وإقامة العدل وإعطاء كل ذي حق حقه.فلست مع من يخلعون على أحكام القضاء قدسية ليست لها، وقد قال الرسول- صلى الله عليه وسلم- وهو أول قاض يحكم بين الناس في فجر الإسلام: "إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض، فمن قضيت له بحق أخيه شيئا بقوله، فإنما أقطع له قطعة من النار، فلا يأخذها". فضلاً عن أن نقد أحكام القضاء وقراراته، لا يجوز أن يكون توصلاً إلى الامتناع عن تنفيذها وجوهر استقلال القضاء، ألا يخضع القاضي في قضائه لغير سلطان القانون وضميره، وأن يتم تنفيذ أحكام المحاكم، فلا يجوز لأي سلطة في الدولة الامتناع عن تنفيذها أو وقف تنفيذها، والمبدأ بهذا المفهوم ليس غاية في ذاته، بل هو الضمان لتحقيق الغايات الأسمى التي أُنشئ القضاء لتحقيقها، وهي العدل والحق والحرية، فهي وحدها مقاصد استقلال القضاء، فلا يجوز أن نسدل الصمت على حكم قضائي لم يحقق هذه المقاصد بل انحرف عن تحقيقها.الضمانة الأكبر في شفافية المداولةولعل قانون المحكمة الدستورية، هو القانون الوحيد من بين القوانين التي تنظم سير العدالة، الذي أرسى حق النقد للأحكام القضائية، بما خلعه على المداولة في الأحكام القضائية التي تصدرها المحكمة من شفافية، لخطورة ما تمارسه المحكمة من ولاية في الرقابة على دستورية القوانين، بعد أن ألزم الدستور ذاته بتقريرات المحكمة في ما نصت عليه المادة (173) من الدستور من أنه في حالة تقرير (المحكمة الدستورية) عدم دستورية قانون أو لائحة يعتبر كأن لم يكن. فقد حرص قانون إنشاء المحكمة الدستورية على أن يتيح للرأي العام رقابة مضاعفة الأثقال على ما تصدره من أحكام وقرارات، بأن نص في مادته الثالثة على أن يرفق بالحكم فضلاً عن أسبابه المفصلة (رأي الأقلية أو آراؤها وما تستند إليه من أسباب).فهو نص لا قبل لنا به بالنسبة إلى أي قانون آخر أو أي حكم قضائي آخر، يصدر بأغلبية الآراء، لأن الأصل في المداولة بين رجال القضاء في ما يصدرونه من أحكام أن تكون المداولة سرية، حتى تصدر أحكام المحاكم في كنّ مستور لا فضل فيه لأحد على الآخر.ولكن المشرع إدراكاً منه لخطورة الرسالة وأهميتها التي تمارسها المحكمة في ولايتها في الرقابة على دستورية القوانين، في إرساء المبادئ الدستورية السليمة، لتتوافق القوانين مع هذه المبادئ، ولا تنحرف عنها، وما تمثله هذه الرقابة من توغل على الاختصاص الأصيل للسلطة التشريعية في إقرار القوانين، وعلى صلاحيات رئيس الدولة في التصديق عليها وإصدارها، قد خرج على مبدأ أساسي في إصدار الأحكام القضائية، هو سرية المداولة.استقالة وزير العدل والحكومةوقد أدى الخروج على سرية المداولة، إبان فترة الامتيازات الأجنبية في مصر، في إحدى قضايا الاغتيالات السياسية، إلى استقالة وزير العدل (الحقانية وقتئذ) واستقالة الحكومة بأسرها، عندما توجه رئيس المحكمة وكان أجنبياً إلى اللورد كرومر، المندوب البريطاني على مصر، ليتبرأ من الحكم الذي أصدرته المحكمة ببراءة المتهمين، وأنه كان مع إدانة المتهمين بهذه الاغتيالات، وأن الحكم صدر بأغلبية آراء القضاة الوطنيين، إذ اعتبر وزير العدل ذلك إفشاءً لسرية المداولة التي يتمتع بها الحكم، وانتهاكاً لحرمة العدالة.قرار التفسير صدر بإجماع الآراءلذلك فإن الخروج على سرية المداولة في الأحكام القضائية، هو أمر جلل، ولكنه كان ضرورياً في قانون إنشاء المحكمة الدستورية لحل معضلة التوفيق بين سيادة الأمة وسيادة الدستور، بتقرير هذه الضمانة، باعتبار أن مجلس الأمة يمارس هذه السيادة، لأن كل نائب يمثل الأمة بأسرها وفقاً لأحكام المادة (108) من الدستور. وإذا كان قرار المحكمة الدستورية في طلب التفسير رقم 10 لسنة 2011 قد خلا من بيان رأي الأقلية، فإن ذلك يعني بالضرورة، أن قرار التفسير قد صدر بإجماع آراء المحكمة وبكامل تشكيلها من خمسة أعضاء، وقد كان كافياً أن يصدر القرار بأغلبيتهم فقط، إلا أن الأمر لم يثر خلافاً بينهم، لأنه لا اجتهاد مع صراحة النصوص الدستورية في المسألة موضوع طلب التفسير.تقدير قرار التفسيروالواقع أن تقريرات المحكمة في هذا التفسير، كانت موفقة غاية التوفيق في تفسيرها للنصوص الدستورية، بما لا يعزلها عن بعضها البعض، بل كان تفسيرها لكل نص، طلب منها تفسيره، وما ارتبط به من نصوص دستورية، متسانداً مع غيره من النصوص بما يقيم بينه وبينها التوافق، وبما ينأى بها عن التعارض، وكانت في تسبيبها لقضائها في هذا التفسير ملهمة موفقة، وكان حكمها أو قرارها في هذا التفسير آية من آيات الفن القضائي الذي صانت به أحكام الدستور، تصحيحاً لمسيرة الاستجواب التي غيرت مسارها في السنوات الثلاث الأخيرة، لتدخل في نفق مظلم، هو التنقيح الفعلي للدستور، عندما تستبدل بمسؤولية الوزراء الفردية، مسؤولية تضامنية تفضي إلى إسقاط الحكومة بكاملها إذا قرر مجلس الأمة عدم إمكان التعاون مع رئيس مجلس الوزراء، إثر استجواب يقدم إلى سموه في مسائل يختص بها الوزراء وتقع مسؤوليتها عليهم وحدهم.وللحديث بقية غداً حول "ما قالته المحكمة وما لم تقله".
مقالات
ما قل ودل: البحث عن الضمانات في قرارات المحكمة الدستورية
14-11-2011