أظن أننا في سنة 2011 على موعد مع الخيال.

Ad

ما حدث فيها منذ بدايتها وحتى هذه اللحظة فيه الكثير مما لم يكن ممكناً تخيله، وأظن أننا في حاجة إلى مزيد من الفهم وليس مزيداً من الجزم.

وربما نحن في حاجة إلى الكثير من الأسئلة وقليل من الإجابات، فالأسئلة في هذه الحقبة أكثر مشروعية من إجابات جاهزة معلبة.

ثلاثة حكام عتاة اختفوا من المسرح السياسي هكذا دون مقدمات أو جرس إنذار.

أولهم هرب "بن علي هرب"، وثانيهم في السجن يحاكم، وثالثهم مقتول وووري التراب في مكان سري في الصحراء الغربية.

من كان يتخيل أنه سيأتي يوم يسعى فيه أحد رموز الدكتاتورية إلى تسليم نفسه للمحكمة الجنائية الدولية؟

ومع أن الأحداث مازالت في مراحل التكوين الجنيني، فإن هناك من لايزال مصراً على أن يستخدم ذات الصندوق العتيق دون أن يمنحنا حتى فرصة التنفس والتأمل في الأفق البعيد، فهو كان من الذين صنعوا ذلك الصندوق، الذي يُستخدم في تحديد الحق والباطل والشياطين والملائكة، أما غير ذلك فساقط وخائن وعميل. أولئك الجازمون بتفسيرهم محسودون لا شك في ذلك.

من هؤلاء الأستاذ ميكي كما أسماه أحمد فؤاد نجم في إحدى قصائده القديمة. الأستاذ ميكي معروف لدى الجميع باسم محمد حسنين هيكل، ويبدو أنه مازال "فيه حيل" أن يتحفنا بإبداعاته التفسيرية. احترمت في بداية الربيع العربي صمته ظناً مني أنه أدرك أو بدا يدرك أنه كان أحد أساطين الفشل العربي، وأحد سلاطين التنظير والتكتيك الذي قاد هذه الأمة من طين إلى وحل إلى سبخ.

لم ينتظر الأستاذ ميكي طويلاً، أو يرح ذهنه قليلاً من عناء التفكير، أو يبتعد بعض الوقت عن الظهور، لم يسمح حتى لنفسه أن يتخيل، بالتأكيد لم يستمع إلى مقولة "الخيال أهم من المعرفة"، ولم يعرف أن من قالها هو عالم شهير هو ألبرت أينشتاين، وهكذا أصر الأستاذ على أن يتحفنا بمقولة لم يقلها مالك في الخمر.

عاش نظرية المؤامرة ولعله تفنن في صياغة أشكالها فعاشت فيه وعاش بها بل عاش لها، ولربما أنه تحول هو ذاته إلى مؤامرة تسير على قدمين أو على قلمين لا فرق. وأعترف أنه قد فاجأني حين وصف ما يجري في المحيط العربي بأنه ليس إلا "سايكس بيكو" جديدة.

وماذا إن لم تكن كذلك؟ أين سنجدك حينها لكي تفسر لنا توهان ذلك التفسير، وأين أنت من تهافت الكثير من رؤاك السابقة؟ أليست الألقاب المسبغة عليه كافية؟ فهو الكاتب والمفكر الكبير والقومي إن شئت، وهو كذلك صاحب السيجار الشهير، والمليونير، الذي لم يتوقف للحظة لتصحيح الأخطاء والتناقضات التي تشعرك بالغثيان والواردة في كتبه الكثيرة مستفيداً من قربه من رجال بقامة جمال عبدالناصر وغيره، تحليلاته في مجملها لم تكن إلا جزءاً من ذهنية زمن الهزيمة، ولم تكن إلا مقدمات لنتائج. المقدمات تلك ربما كان الناس مخدوعين بها، أما النتائج فنعرفها جيداً، هزائم تلو الهزائم، واستلاب للإنسان العربي ما بعده استلاب.

كان صاحبنا "بصراحته" المعروفة جزءاً لا يتجزأ منها، إن لم يكن عنصراً فاعلاً فيها، كما زعم ومازال يزعم في كتب الإسهال الفكري المليئة بشهود كلهم قد ماتوا. وعلى أية حال فهيكل ليس إلا نموذجاً لحالة اليبس والجفاف والجدب التي عطلت تفكير هذه الأمة. لم يكن مستغرباً أن أول المرددين لمقولات الأستاذ هم دهاقنة النظام في سورية، ولذا لم يتمكن هيكل حتى في اللحظات التاريخية للشعوب أن يتخيلها، فهو غير قادر على الخيال، ومليء بالمؤامرة. وعساه أن يخرج من صندوقه فذلك أرحم به وبنا.

في عالمنا المهزوم، والمأزوم، يظهر بطل الرواية المزعوم، وتظل الجماهير تبحث عن ذلك البطل المنقذ، قد يأتي اليوم أو غداً أو بعد غد، حتى أن البعض يصر أن صلاح الدين الأيوبي كان عربياً، سنظل في إرث الهزيمة نبحث عن ذلك المزعوم في التاريخ، بينما بشيء من خيال وشيء من اتساع أفق، قد نكتشف أن البطل المرتقب موجود بين ظهرانينا، دون حاجة إلى بحث في التاريخ المشوه المشلول. نحن في حاجة إلى تفسيرات أكثر رحابة وأكثر انطلاقاً وأكثر فهماً وأكثر فطنة وأكثر ذكاء، والخروج من ذلك الصندوق الموبوء لعلها تكون الفرصة التاريخية لمجتمع أكثر إنسانية.