طوّع البرنز وجعله ينطق بالعذابات البشرية: الأشلاء الملقاة على قارعة الطريق... اللحم المشاع الذي يطأه الوصوليون والمتزاحمون على الغنائم... الجسد المربوط بالحبال حتى آخر عضلة وآخر صرخة... الكيان المُداس والمُهان والمنتهك... وعذابات الجدران والحواجز... ووطأة الكوابيس وظلمة القهر.

Ad

هكذا ينكأ سامي محمد أدق التفاصيل وأعمقها في مسيرة الإنسان المنطوية على المعاناة، والمموهة بأسرار الانكفاء على الصبر والصمت، حتى لتتشابه علينا -في أعماله- الأحوال والوجوه، والحقيقة والفن، منذ دخلَنا الفنان فجرّدنا وعرّانا.

في معرضه الأخير، يؤكد لنا سامي محمد استمراره في استقراء محنة الإنسان، وخبايا المسكوت عنه من مشاعره الغائرة والمعقدة. ففي لوحاته المتأخرة تبرز لنا (موتيفات) جديدة، حيث الوجوه المكممة الملفوفة بالأقمطة، العارية من الملامح، الممعنة في الغربة. في (لوحة 27 )* كيان يشبه امرأة هلامية تجلس على الفراغ بلا ذراعين، وقد أسندت وجهها المكمم إلى آلة الكمان. وعلى قدر ما كانت الآلة الموسيقية واضحة وحاضرة، كانت المرأة بلا ملامح وسابحة في مساحة من الفراغ الأحمر. لكأن الحضور الأوحد للموسيقى فقط، ولأمنيات مبهمة ورغبة غير متحققة في التواصل والكينونة.

ويبقى موضوع الغربة والعزلة وأزمة التواصل مع الآخر خيطاً ممتداً يربط مجموعة اللوحات كلها. ففي لوحة تضم أشخاصاً ثلاثة: رجل في المنتصف وامرأتان عن اليمين واليسار، يظهر الفراغ الأسود ليفصل واحدهم عن الآخر، وتظهر أغطية جائرة تكمم وجوههم وتمسح ملامحهم، فيظلون شاخصين في الصمت والفراغ بلا لغة للجسد أو أذرعة للتلامس.

إن (موتيف) الأربطة والحبال وعصابات الأعين كثيرة الحضور في منحوتات سامي محمد، وهو الآن يوظفها بشكل آخر في لوحاته المعبرة عن اغتراب الإنسان وأزمة التواصل مع الآخر. ولما كان الوجه هو هوية الإنسان ونافذة روحه ومرآة شعوره، فقد أولاه الفنان جل اهتمامه حين عمد إلى تمويهه وطمسه ليعبر عن أزمة انتفاء التواصل، ومحنة العزلة. ورغم الحضور البارز للرؤوس المكممة بالأقمطة، فإن الفنان لم يهمل أثر غياب لغة الجسد أيضاً وانعدامها في شخوص اللوحات، فظهرت الأجساد بأشكال اعتبارية بلا أذرع أو أطراف، وبلا لغة للملامسة أو القرب.

ورغم اشتغال سامي محمد بآلام الإنسان وهمومه، فإنه في معرضه الأخير ترك نافذة مواربة للأمل والحياة المباغتة بالحرارة والخضرة. ويرى المتأمل للوحاته أنه عبّر عن ذلك بأداتين واضحتين: الأولى توظيفه للأغصان والأوراق في خلفية اللوحة، أو رسمه للبرعم ينبت من أعضاء الشخوص الممتحنين بالمعاناة والعذاب، فيأتي -حينها- البعث والتجدد موازياً موضوعياً لمحن الحياة وشقائها. وأي علامة أوضح وأقدر من الشجرة والورقة والظل على بلسمة شقاء الإنسان وعذابه؟

أما أداته الأخرى للتعبير عن الأمل فتظهر في طغيان اللون الأحمر الفاقع، سواء في خلفية اللوحات أو في شخوصها، وذلك جنباً إلى جنب مع اللون الأسود السادر. وكأن الحياة التي تضنينا بسوادها الحالك هي ذاتها التي تتفجر بالأحمر الحار، لترغمنا على الإيمان باستمرار مسيرتها رغم كل شيء.

في تقديم لكتيّب عن معرض سامي محمد الأخير يقول خالد العبدالمغني: "إن ما يميّز نتاج سامي محمد التشكيلي هو الروح الكامنة في صور التحدي والمقاومة لا الخنوع والخضوع، وكذلك الفعل المبني على ثنائية الصمت والرفض، لا الصراخ والاستكانة. ولعل التسميات التي يعرف بها الفنان أعماله تكشف عن عوالمه الإنسانية بلا مواربة، وعن انحيازه المطلق إلى صف المقهورين والمكبلين والضعفاء بلا تردد".

ولا يبقى إلا أن نبارك للفنان المعطاء مثابرته وتجدده، وإخلاصه المطلق لرسالته الإنسانية والفنية.

* لا توجد أسماء أو عناوين للوحات المعروضة كل على حدة، وإنما يطلق الفنان رقماً ما للمجموعة كاملة، ومن هنا يصعب تحديد كل لوحة عند التعليق عليها.