من العلمانية الأتاتوركية إلى العلمانية الليبرالية
لايزال أصوليونا يملأون الدنيا ضجيجاً وحماساً لنجاح حزب العدالة والتنمية ذي الجذور الإسلامية في تطوير التجربة الديمقراطية التركية، متوهمين استعادة «السلطان أردوغان» أمجاد الخلافة العثمانية، متباهين بأوهام «هزيمة العلمانية» في تركيا، لاسيما في فوز أردوغان وحزبه «التنمية والعدالة» في الانتخابات الأخيرة بنسبة 51 في المئة. يتناسى أصوليونا أن سبب تطور تجربة التحديث في تركيا هو نجاح حزب التنمية والعدالة، منذ وصوله إلى الحكم في 2002، في القيام بإصلاحات سياسية واقتصادية مبنية على الأسس العلمانية الليبرالية. وهو نموذج يختلف جملة وتفصيلاً بفكره ومنهجه عن أحزاب الإسلام السياسي في عالمنا العربي. فحزب التنمية والعدالة، الذي يؤمن بالتعددية والحرية الفردية، يعتبر حزباً وطنياً أكثر منه إسلامياً لتمثيله مختلف توجهات المجتمع التركي من إسلاميين وغير إسلاميين، كما تختلف أحزابنا الإسلامية عن حزب التنمية والعدالة اختلافاً نوعياً في الشكل والمضمون، فالحزب التركي ذو التوجهات الإسلامية يعلن (في موقعه الإلكتروني الرسمي) صراحة مبادئه التي تعتبر العلمانية شرطاً ضرورياً لحماية الديمقراطية وضماناً لحرية الدين والضمير، كما يرفض تحريف تفسير العلمانية كخصم للدين، ويرفض توظيف واستخدام الدين لأغراض سياسية.
لا يمكن فهم الواقع التركي دون التطرق إلى بعض التطورات التي عملت ولاتزال على تحويل تركيا من العلمانية الأتاتوركية المستبدة إلى العلمانية الليبرالية الديمقراطية، فقد رسخ «أتاتورك»، مؤسس تركيا الحديثة، العلمانية «الصارمة» ليتخلص من إرث الحقبة العثمانية، فعمل الجيش الذي أسسه أتاتورك كحارس للعلمانية الأتاتوركية التي اضطهدت الأقليات وعمقت التعصب القومي. هكذا تعرقل تطور تركيا فترة من الزمن بسبب الوصايا العسكرية وانقلاباتها وحظرها الأحزاب السياسية ومحاكمة قادتها. ليصل «تورغوت أوزال» الليبرالي المحافظ إلى السلطة في أول انتخابات بعد الانقلاب العسكري عام 1983، ويطلق سياسات إصلاحية ليبرالية سمحت بحرية التعبير عن الدين، ليفوز حزب إسلامي (حزب الرفاه) في انتخابات 1995 لأول مرة في تاريخ تركيا الحديث، وليتعلم أردوغان من أخطاء حزب الرفاه «المنغلق» ويفوز في ثلاث ولايات متتالية منذ 2002. فالبرغم من محاربة المؤسسة العسكرية لحزب أردوغان واتهامه بتنفيذ أجندة خفية تسعى إلى تدمير أسس الدولة العلمانية، فإنه حقق شعبية جمعت مختلف الأطياف والأقليات والأديان بما فيها التيار الليبرالي التي استطاع الحزب أن يحتويها جميعها بالتزامه بقيم العلمانية الليبرالية كضمان للمساواة وحرية المشاركة والتعبير. كما تعززت شعبيته بالإنجازات الاقتصادية التي أوصلت تركيا إلى المرتبة السابعة عشرة ضمن الاقتصاد العالمي، وبالسعي إلى تحقيق شروط العضوية في الاتحاد الأوروبي، التي كانت المؤسسة العسكرية تقف حجر عثرة حيال تحقيقها، فالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي سيقوي مركز حزب العدالة والتنمية ويضعف سلطة العسكر التي كانت سبباً رئيسياً في رفض الاتحاد الأوروبي انضمام تركيا، نتيجة عرقلة المؤسسة العسكرية تطور الديمقراطية، واضطهادها الأقليات وتدخلها في الحكم المدني، وقمعها الحريات كقضية منع الحجاب في الجامعات الذي جعل ابنة أردوغان (رئيس الوزراء) تغادر تركيا لمتابعة دراستها في الولايات المتحدة. وبالرغم من وعد أردوغان بالسعي إلى «صياغة دستور ليبرالي جديد» يحل محل الدستور الذي أسسته المؤسسة العسكرية في 1982، فإن مهمته ستكون صعبة لعدم توافر أغلبية الثلثين.هكذا إذاً يتضح جلياً أن التحول التدريجي من العلمانية الأتاتوركية غير الليبرالية إلى العلمانية الليبرالية، التي يحاول جاهداً حزب التنمية والعدالة إرساءها، هي سبب قصة نجاحها وتفوقها النسبي، وهي سبب دعم شرائح عريضة من المجتمع ضد العلمانية غير الليبرالية «المؤدلجة»... هذا هو الدرس المستفاد من التجربة الناجحة نسبياً لحزب العدالة والتنمية ذي التوجه الإسلامي، والذي أضحى عصياً على اختراق الذهنية المنغلقة لدينا التي تخلط بجهل مركب (أي الجهل بالجهل) بين أنواع العلمانيات التي يضعونها جميعها في سلة واحدة، ويضربون بذلك مثال تركيا على سقوط العلمانية وإقصائها للأحزاب الإسلامية التي انقلبت عليها وهزمتها شر هزيمة. فهل يدرك هؤلاء حقيقة أنه من الممكن أن توجد علمانية دون ليبرالية، ولكن لا يمكن إطلاقاً أن تكون هناك ليبرالية دون علمانية، إذ لا يمكن أن تستقيم الليبرالية مع انحياز الدولة لفئة أو طائفة معينة أو أن تميز بين المواطنين على أساس الدين أو الطائفة، وتفرض رؤاها قسراً على الأقليات... تلك هي العلمانية الليبرالية المتسامحة التي تعني حسب صادق العظم «الحياد الإيجابي للدولة إزاء الأديان والمذاهب والطوائف والفرق الدينية»، هل ألغت علمانية أردوغان الليبرالية الدين من المجتمع؟