لأن المحاكم تحكم ولا تفتي فقد ألزم قانون إنشاء المحكمة الدستورية بتفسير المحكمة الدستورية في ما نصت عليه المادة الأولى من قانون إنشاء المحكمة الدستورية رقم (14) لسنة 1973 من أنه "يكون حكم المحكمة الدستورية ملزما للكافة ولسائر المحاكم".
وهو ما تناولته في مقالي أمس تحت عنوان "على هامش الإلزام بتفسير المحكمة الدستورية".ولعل ما يعزز ذلك ويؤكده ما يلي:أولاً: اختصاص المحكمة دون غيرها بالتفسيروهو ما استهلت به المادة الأولى من قانون إنشاء المحكمة الدستورية أحكامها بالنص على أن "تختص المحكمة الدستورية دون غيرها بتفسير النصوص الدستورية".ولئن كانت الدلالة التي تستفاد أصالة من النص، هي انفراد المحكمة الدستورية بتفسير نصوص الدستور، فإن هناك دلالة أخرى تأتي تبعاً لهذه الدلالة، وهي الحظر المفروض على أي جهة في تفسير نصوص الدستور، والحظر هو أقوى الدلالات جميعاً، مصداقاً لقول الرسول عليه الصلاة والسلام: "إذا أمرتكم بأمر فاتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه".ومن هنا يأتي الحظر في مرتبة أعلى من حيث القوة في الدلالة على انفراد المحكمة بتفسير النصوص الدستورية، التفسير الملزم لسلطات الدولة كافة، فالإلزام بالتفسير هو القصد الحقيقي من النص على انفرادها دون غيرها بتفسير نصوص الدستور، وبمراعاة أن غيرها ليس المقصود به كما قد يتبادر إلى الذهن لأول وهلة، غيرها من المحاكم، بل كذلك غيرها من السلطات.لأنه لا يعقل أن يكون المشرع الدستوري قد أغلق باب الاجتهاد في تفسير نصوص الدستور أمام الكافة، لأن ذلك فضلاً عن تعارضه مع العقل والمنطق فإنه يتعارض مع نصوص دستورية أخرى، فالسلطة التشريعية تسن التشريعات، وعليها التحقق من تطابقها مع أحكام الدستور، بما يقتضي منها لزوما أن تتبنى تفسيراً ما لنصوص الدستور، وعدم اللجوء إلى المحكمة الدستورية في كل شاردة وواردة، وكذلك السلطة التنفيذية في تطبيقها للقوانين ونصوص الدستور وحده واحدة يكمل بعضها بعضا.كما كفل الدستور حرية الرأي والبحث العلمي في (المادة 36) بما لا يجوز معه أن يغلق باب الاجتهاد أمام الباحثين في تفسير نصوص الدستور.ونص الدستور في المادة (170) على أن "يرتب القانون الهيئة التي تتولى إبداء الرأي القانوني للوزارات والمصالح العامة..."، الأمر الذي يقتضي بالضرورة من هذه الهيئة التصدي لنصوص الدستور لتفسيرها، فهو قانون من قوانين الدولة، وإن كان يعلوها مرتبة، لكن هذه الهيئة، وهي إدارة الفتوى والتشريع تبدي رأياً استشاريا فيما تُستفتى فيه.ويترتب على ذلك حتماً أن يكون قصد المشرع الدستوري واضحاً، في تقرير انفراد المحكمة الدستورية بتفسير نصوص الدستور، وهو الإلزام بما تصدره المحكمة من تفسيرات، لكل المحاكم ولكل سلطات الدولة، ومنها مجلس الأمة.ثانياً: المشرع يخلع على طلبات التفسير وصف المنازعة،ولعل ما يعزز الإلزام بتفسيرات المحكمة الدستورية ويؤكده أن المشرع في قانون إنشاء المحكمة الدستورية قد خلع على طلبات التفسير وصف المنازعة في ما تنص عليه المادة الرابعة من قانون إنشاء المحكمة من أن "ترفع المنازعات إلى المحكمة الدستورية بإحدى الطريقتين الآتيتين:أ- بطلب من مجلس الأمة أو من مجلس الوزراء.ب- إذا رأت إحدى المحاكم أثناء نظر قضية من القضايا، سواء من تلقاء نفسها أو بناء على دفع جدي تقدم به أحد أطراف النزاع أن الفصل في الدعوى يتوقف على الفصل في دستورية قانون أو مرسوم بقانون أو لائحة "توقف نظر الدعوى وتحيل الأمر إلى المحكمة الدستورية...".ومؤدى هذا النص ومفاده، أن المشرع قد وصف ما يشجر من خلاف حول تفسير نص دستوري بالمنازعة، عندما يتقدم مجلس الأمة أو الحكومة بطلب تفسير لنص دستوري، شأنه في ذلك شأن الدفع بعدم دستورية قانون أو لائحة والذي يقدم من أطراف النزاع في أي قضية تطرح على المحاكم، والمحاكم تحكم في المنازعات المطروحة أمامها بحكم ملزم.كما لم يقصر المشرع طلبات تفسير النصوص الدستورية على مجلس الأمة ومجلس الوزراء، كما يبين من ظاهر نص البند (أ) من المادة الأولى سالفة الذكر "بطلب من مجلس الأمة أو من مجلس الوزراء".بل أجاز للمحاكم من تلقاء نفسها، ولو لم يقدم أمامها من أطراف النزاع دفع بعدم دستورية القانون، أن توقف نظر القضية وتحيل الأمر إلى المحكمة الدستورية، إذا بدا لها أن الفصل في النزاع يتوقف على الفصل في دستورية قانون أو مرسوم بقانون أو لائحة، فإحالة المحاكم من تلقاء نفسها إلى المحكمة الدستورية لا يعدو أن يكون طلباً بتفسير النص الدستوري في منازعة مطروحة أمامها، ولو لم يشجر خلاف بين المتخاصمين حول عدم دستورية القانون، وبذلك يصبح بمنزلة طلب تفسير من المحكمة، شأنه في ذلك شأن الطلب المقدم من مجلس الأمة أو الحكومة.ثالثاً: نشر قرارات التفسير في الجريدة الرسمية يؤكده الإلزام،حيث نصت المادة الثالثة من قانون إنشاء المحكمة الدستورية على أن "تنشر الأحكام ومرفقاتها في الجريدة الرسمية خلال أسبوعين من صدورها". فالمشرع بهذا النص قد ساوى بين أحكام المحكمة الدستورية- ويدخل ضمنها ما تصدره من تفسيرات لنصوص الدستور- والقوانين، من ناحية نشرها في الجريدة الرسمية ليتحقق علم الكافة بها على أساس من قرينة افترضها المشرع، من أن النشر يتحقق به علم الكافة بالقانون، للعمل بأحكامه، في ما تقرره من حقوق أو تفرضه من الالتزامات، وعلم الكافة بالأحكام التي أصدرتها المحكمة بعدم دستورية القانون ليتحلل الكافة منه أو بإزالة شبهة عدم الدستورية عنه، وكذلك علم الكافة بتفسير المحكمة الدستورية لنص دستوري للالتزام به.
مقالات
ما قل ودل: المحاكم تحكم ولا تفتي... وقرار التفسير ملزم
31-10-2011