لا يتعلق الفرق الأساسي بين الثورات العربية ونظيرتها السورية بمستوى العنف أو بإصرار الأسد على عدم تنفيذ وعوده بإجراء الانتخابات والإصلاحات، بل بواقع أن النظام العلوي متحالف مع إيران و«حزب الله» اللبناني الشيعي ضد الولايات المتحدة وإسرائيل وعملائهما العرب.

Ad

حتى الأيام الأخيرة، كان التشاؤم بشأن نتائج الثورة العربية يخيّم على الأجواء. فبعد الاحتفالات والبهجة التي عمّت في تونس ومصر، سرعان ما تحول "الربيع العربي" إلى خريف كئيب. فقد أصبحت الممارسات اليومية عبارة عن قمع وحشي، وتدخل خارجي، وحروب أهلية، وثورات مضادة، وتجدد هيمنة الحرس القديم. بالنسبة إلى البعض، لم تحصل أي ثورة أصلاً، ووحدها تونس الهامشية على المستوى الاستراتيجي تمكنت من خوض تحول ديمقراطي حقيقي.

لكن ها هي موجة الثورة تتجدد في مصر الآن، فقد تحدى مئات آلاف الأشخاص أعمال العنف القاتلة لاستعادة السلطة من الحكم العسكري الذي لم يكن ينوي تسليم السلطة أصلاً. بعد الإطاحة بحسني مبارك والتحضير لعملية انتخابية ودستورية محدودة، عمد الجنرالات الذين يسيطرون على مصالح تجارية واسعة إلى قمع التحرك الشعبي، فسجنوا وعذبوا الآلاف واعتدوا على المتظاهرين وعززوا مظاهر الصراع الطائفي.

لكن كانت محاولتهم الرامية إلى احتكار السلطة الدستورية الدائمة هي التي أعادت إشعال فتيل الثورة وجددت صراعهم مع جماعة الإخوان المسلمين النافذة. وقد أُجبر الجيش مجدداً على تقديم تنازلات كبرى وقد تتم الإطاحة به أيضاً إذا مُنع من عزل حشود المحتجين المنتمين إلى الفئات الشعبية.

يمكن تقييم موقف الأميركيين وحلفائهم من هذا الوضع انطلاقاً من ردود فعلهم تجاه مقتل 38 متظاهراً على الأقل وجرح أكثر من 1500 شخص آخر. في هذا الإطار، شرح وكيل وزارة الخارجية البريطانية أليستير بيرت ضرورة إعادة ترميم السلطة، فيما كرر البيت الأبيض دعوة جميع الأطراف إلى ضبط النفس، تماماً كما فعل في شهرَي يناير وفبراير، حين قتلت القوى الموالية لمبارك 850 شخصاً خلال ثلاثة أسابيع.

منذ اليوم الذي سقط فيه الديكتاتور المصري، برزت نزعة القوى الغربية وحلفائها والأنظمة القديمة إلى سحق أو سرقة إنجازات الانتفاضات العربية. في تونس ومصر، تدفقت الأموال الأميركية والسعودية لدعم حلفاء البلدين. وقد خصصت إدارة أوباما 120 مليون دولار من أجل "نشر الديمقراطية" في البلدين، فيما أصبحت الأردن- الدولة العربية المفضلة بالنسبة إلى الغرب على رغم الاضطرابات الحاصلة فيها- ثاني أهم متلق للمساعدات الأميركية بعد إسرائيل.

أما المقاربة الثانية، فكانت تقضي بدعم حركات قمع الاحتجاجات بالقوة. في شهر مارس، أعطت الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة الضوء الأخضر لغزو البحرين، موطن الأسطول الأميركي الخامس، وللمساعدة في كبح التحرك الديمقراطي، وقيل إن هذا الدعم حصل مقابل تأييد جامعة الدول العربية للتدخل الغربي في ليبيا. يفصل التقرير الذي أصدره النظام عن حملات القمع أنواع عمليات القتل والتعذيب والاعتقال التي تبعت ذلك.

وكان التكتيك الثالث يقضي بأن يضع الغربيون وحلفاؤهم العرب أنفسهم في واجهة الانتفاضات، وهذا ما حصل في ليبيا حيث أصبح التدخل العسكري بقيادة الحلف الأطلسي ممكناً بعد الحصول على تأييد قطر والدول الخليجية الأخرى. نتيجةً لذلك، سقط نظام القذافي، وقُتل حوالى 30 ألف شخص، وتأسس نظام جديد على أنقاض أعمال التطهير العرقي والتعذيب وحملات الاعتقال من دون محاكمة. لكن من وجهة نظر الحلف الأطلسي، يبدو أن النظام الجديد في طرابلس يميل على الأقل إلى تأييد الغرب.

كانت عودة القوى الاستعمارية السابقة إلى العالم العربي لاستعادة موارد النفط في ليبيا، غداة احتلال العراق، هي التي دفعت مستشار جمال عبدالناصر السابق، محمد حسنين هيكل، إلى التكلم حديثاً عن التهديد الذي يطرحه أي اتفاق جديد مشابه لاتفاقية "سايكس بيكو"- وهي اتفاقية تقاسم الأراضي التي عُقدت بين بريطانيا وفرنسا بعد الحرب العالمية الأولى- أو إعادة توزيع الغنائم في المنطقة.

مع مرور الأشهر، ظهر سلاح آخر، الطائفية الدينية، لإعاقة أو كبح مسار الصحوة العربية. ارتبط هذا السلاح بالعدائية تجاه نفوذ إيران الشيعية، فكان عاملاً حاسماً في تعبئة منطقة الخليج لقمع الثورة في البحرين التي تضم غالبية شيعية. وبسبب الصراع الذي نشب في العراق بعد عملية الغزو، كان ذلك السلاح الأداة الترويجية الأساسية المستعملة لعزل المحتجين في ذلك البلد الشيعي الغني بالنفط.

لكن يُعتبر هذا العامل محورياً أيضاً في تعزيز خطورة الصراع في سورية. فهو يفسر الرد المغاير تجاه حملة القمع الدموية التي يقودها نظام الأسد والتي أدت إلى مقتل 3500 شخص منذ شهر مارس، وتجاه اليمن حيث قُتل 1500 شخص منذ شهرين. فيما يوقّع الرئيس اليمني في الرياض اتفاقاً برعاية دول الخليج لتسليم السلطة إلى نائبه مع الاحتفاظ بالحصانة، تخضع سورية للعقوبات وتواجه خطر التدخل العسكري الخارجي وقد تمّ تعليق عضويتها في جامعة الدول العربية.

لا يتعلق الفرق الأساسي بمستوى العنف أو بإصرار الأسد على عدم تنفيذ وعوده بإجراء الانتخابات والإصلاحات، بل بواقع أن النظام العلوي متحالف مع إيران و"حزب الله" اللبناني الشيعي ضد الولايات المتحدة وإسرائيل وعملائهما العرب.

ما بدأ على شكل حركة احتجاجية سلمية في سورية يتحول الآن إلى حركة تمرد مسلحة وشاملة وصراع طائفي مرير يوشك على الانزلاق في مستنقع الحرب الأهلية. وبما أن أياً من الطرفين لا يستطيع السيطرة على الوضع، تتزايد دعوات قادة المعارضة المدعومين من الغرب إلى حصول تدخل خارجي وفرض منطقة حظر جوي كما حصل في ليبيا. صحيح أن دول الحلف الأطلسي استبعدت هذا الخيار من دون دعم الأمم المتحدة، لكن قد يتبدل هذا الموقف إذا تحول الصراع إلى معركة واسعة النطاق تترافق مع أزمة لاجئين. لا يمكن تجنب هذه الكارثة الإقليمية إلا من خلال تسوية سياسية يتم التفاوض عليها في سورية، بوساطة تركية وإيرانية- مع أن انتقادات تركيا اللاذعة لنظام الأسد قد تمنع إقرار أي اتفاق مماثل.

الأمر المؤكد هو أن الانتفاضات في أنحاء العالم العربي هي على ارتباط وثيق، وأن الطائفية والتدخل الخارجي هما عدو الثورة الحديثة العهد. كان صمود الأنظمة الاستبدادية يتوقف على الدعم الذي تحصل عليه من القوى الغربية التي كانت مصممة على حماية هيمنتها الاستراتيجية. لكن سيكون الشرق الأوسط الديمقراطي أكثر استقلالية حتماً.

لهذا السبب، قد يؤدي تجدد الثورة في مصر، قلب العالم العربي، إلى تسريع عملية إرساء الديمقراطية في هذا البلد نفسه، فضلاً عن تغيير المعطيات في أنحاء المنطقة، وبالتالي ستُمنَع المحاولات المتعددة لإعاقة إشعال فتيل الثورة.

* الغارديان