التجربة الإيرانية!
للاستفادة من تجارب الآخرين، ولتدرك الحركة الإسلامية "العربية"، التي بعد طول انتظار ومعاناة وكفاح ومرارات واستهداف، اقتربت من تحقيق حلمها التاريخي وتتويج هذه الانتصارات التي حققتها، بأخذ مسؤولية الحكم بيدها، مع شركاء آخرين بالضرورة كما يفترض، فإنه لابد من العودة إلى التجربة الإيرانية عشية انتصار الثورة ضد شاه إيران السابق في فبراير عام 1979. خلال الستة عشر عاماً التي أمضاها آية الله روح الله الموسوي الخميني في المنفى، بعد أن أبعده الشاه محمد رضا بهلوي من مدينة قم المقدسة، مرقد السيدة معصومة شقيقة الإمام علي الرضا، ومن إيران، وبعض هذه الفترة في تركيا ومعظمها في النجف الأشرف في العراق، بقي يواصل الليل بالنهار والنهار بالليل لوضع تصور للدولة التي سيقيمها على أنقاض عرش الطاووس، وقد تمكن عبر آلاف الدروس والمحاضرات من إنجاز ثلاثة عشر كتاباً، بعضها في الاقتصاد الإسلامي وبعضها في الفرْق بين الثورة والدولة، وبعضها في العلاقات الدولية وفي قيم المجتمع الجديد الذي سيقوم في المرحلة الجديدة، التي كان قد أكد أنها ستكون تحولاً تاريخياً لفترة طويلة، لا في مرحلة عابرة فقط على غرار "ثورات" الانقلابات العسكرية. بعد عودة الإمام الخميني من فرنسا إلى طهران، بعد نفي استمر سنواتٍ طويلة، بأيام قليلة، كنت في طهران في مهمة صحافية للوقوف، عن كثب، على حدث تاريخي كانت التقديرات أنه أهم من الثورة الشيوعية "البلشفية" وأهم من الثورة الصينية التي قادها ماو تسي تونغ، ولكن بحجم الثورة الفرنسية العظيمة التي غيرت، وإنْ بعد مئتي عام، وجه أوروبا ووجه العالم، واستبدلت القيم البالية التي كانت سائدة في عهد المقاصل والسجون المظلمة وتكميم الأفواه، بالحريات العامة والحريات الفردية، وبإرساء أسس هذه الديمقراطية التي ينعم بها الفرنسيون، وينعم بها الأوروبيون والغرب كله. خلال مدة شهر ويزيد أمضيتها هناك، شاركني في بعضها الكاتب والأديب اللبناني الشهير والمعروف صاحب "الجبل الصغير" إلياس خوري، تنقلتُ بين مجالس المراجع العليا، ومن بينهم آية الله العظمى حسين منتظري، وآية الله طالقاني وبهشتي ومحمد يزدي وعلي خامنئي هذا نفسه، وكان حينئذ إمام جمعة مسجد جامعة طهران، إضافة إلى آخرين غير معممين، مثل صادق قطب زاده، الذي أُعدِم لاحقاً بتهمة التخابر مع الـ"سي آي إيه" الأميركي، وبازركان وأحمد الخميني وبني صدر، وكانت هذه المجالس جلسات حوارات شاقة طويلة تقال الآراء فيها وفي كل شيء، في الثورة ودولة الثورة وفي المراجع العلمية العليا، وفي حكم المعممين، بصراحة تامة ومن دون أي مظهر من مظاهر الدكتاتورية الفكرية والأدبية والمذهبية والدينية، بمشاركة الماركسيين والعلمانيين وكل ممثلي التوجهات في البلاد، وكان النقاش الحاد في البدايات يتركز حول "هل من الضروري مشاركة المعممين في الحكم والسيطرة عليه أم لا؟" وهذا يجب أن تدركه وتتعلم منه الحركة الإسلامية، وقد أصبحت في الوضع الذي هي فيه.