في 25 يناير الماضي، اندلعت في مصر تظاهرات نادرة في زخمها وصلابتها وقدرتها على الحشد، وهي التظاهرات التي تطورت لاحقاً لتشكل ثورة، احتلت سريعاً موقعها المقدر في قائمة ثورات "الربيع العربي"، وزينت سجل الثورات العالمية المبهرة على مر التاريخ.
حين اندلعت ثورة يناير، لم يكن الهتاف الأهم الذي لخص مطالبها الرئيسة كما يعتقد كثيرون "الشعب يريد إسقاط النظام"، فذلك الشعار لم يكن سوى خطوة في طريق تحقيق الشعار المحوري، والذي يقول "عيش... حرية... عدالة اجتماعية"، وفي صياغة أخرى "عيش... حرية... كرامة إنسانية".كان الثوار يدركون تماماً، بوصفهم طليعة ثورية واعية ومنتمية وأصيلة، ما يريد الشعب تحقيقه من مطالب، كما كانوا حريصين على ترتيب تلك المطالب بشكل يعكس رؤية القاعدة الشعبية التي تدعمهم بأكثر مما يترجم احتياجاتهم الحقيقية الملحة، بوصفهم من أبناء الطبقة الوسطى، الذين تلقوا تعليماً جيداً، ولا يعاني معظمهم ضائقة اقتصادية، بقدر ما يريد أن يرى وطنه سيداً عزيزاً، ويجلب لنفسه الشعور بالعزة والكرامة والفخر الوطني.وسواء كان الشعار المحوري للثورة "الشعب يريد إسقاط النظام" أو "عيش... حرية... عدالة اجتماعية"، فالواضح أنه انطلق من حس جمعي، وانطوى على توافق وطني، ولم يهدف، من قريب أو بعيد، إلى إحداث أي نوع من التمييز أو التفريق بين أبناء الشعب الواحد.لذلك، لم يكن مستغرباً أبداً أن يشهد ميدان التحرير في أيام الثورة المجيدة، من 25 يناير إلى 11 فبراير، والأسابيع القليلة التي تلتها، شعارات وصورا وأيقونات تضم الهلال مع الصليب، وأن يصلي المتظاهرون المسلمون في حماية إخوتهم المسيحيين، أو أن يقيم المسيحيون قداساتهم في حماية المتظاهرين المسلمين.كما لم يكن مستغرباً أن يخطب شيخ خطبة جمعة، في الموجودين بالميدان، قائلاً "أيها المصريون... أيها المسلمون... أيها المسيحيون"، بدلاً من القول "أيها المسلمون... أو أيها المؤمنون"، في واحدة من أروع الإشراقات التي شهدتها الثورة، والتي أمدتها بطاقة كبيرة للتلاحم والمضي قدماً في تحقيق أهدافها.لكن المسار السياسي الذي اتخذته الثورة لاحقاً لم يكن يصب في الاتجاه ذاته؛ إذ أظهر أغلب الثوار من أعضاء التيارات الإسلامية، ومعظمهم رفض الاشتراك في الثورة من أول يوم، وبعضهم عارضها وأدان المنخرطين فيها، قدراً كبيراً من الانتهازية السياسية، ونزوعاً واضحاً نحو التفرد والقفز على الثورة ومحاولة خطفها بشتى الطرق.لقد عارض الإسلاميون بداية وضع دستور جديد للبلاد يحدد مسار العملية السياسية لتسليم السلطة وبناء الدولة، ووافقوا على التعديلات الدستورية، التي استفتى عليها المجلس العسكري الحاكم الجمهور، بأغلبية كبيرة، استخدموا الدعاوى الدينية لحشدها للتصويت، قبل أن يطلقوا على النتيجة التي جاءت في مصلحتهم لقب "غزوة الصناديق".ومنذ نجاح الإسلاميين في تحقيق نسبة تأييد كبيرة في هذا الاستفتاء، وتأكدهم من دعم الشارع لهم وقدرتهم على تعبئته والتأثير فيه في مواجهة التيار الليبرالي والعلماني، الذي يهيمن على أقنية الإعلام دون وجود قوي على الأرض، تغيرت لغتهم وطريقة انخراطهم في تفاعلات الثورة، وظهرت النزعة الإقصائية الواضحة في خطابهم، وبان تركيزهم على ضرورة الوصول إلى الانتخابات لتحقيق أغلبية كبيرة فيها تمكنهم من تنفيذ أجندتهم.وقد ظهرت تلك النزعة لدى الإسلاميين بوضوح في حديث بعض قياداتهم عن "تطبيق الشريعة"، و"إقامة الحدود"، و"صبغ المجتمع بصبغة الإسلام"، و"تحريم بعض أنواع السياحة"، و"إعادة النظر في بعض أنماط التمثيل والغناء"، و"عدم التصويت للعلمانيين والليبراليين"، و"تطبيق الجزية على المسيحيين"، و"فرض القيود على الزي"، و"منع السيدات من الاختلاط بالرجال في أماكن العمل".وارتفعت أعلام "القاعدة" السوداء في ميدان التحرير بالقاهرة وغيره من الميادين في محافظات عدة، كما ارتفعت أعلام أخرى غريبة، ولافتات تحط من كرامة "الليبراليين والعلمانيين"، كما ردد المتظاهرون شعارات من نوع "لا إله إلا الله... الليبرالي عدو الله"، في تظاهرات مليونية، أطلقت بعض وسائل الإعلام عليها أسماء من نوع "جمعة قندهار" و"تظاهرات طالبان".وحينما حاولت نخب مصرية ليبرالية، بتنسيق مع حكومة الدكتور عصام شرف المقالة، وبرعاية من قيادات بالمجلس العسكري الحاكم، الوصول إلى توافق على وثيقة مبادئ دستورية ملزمة للأطراف السياسية قبل الانتخابات، بما يضمن توافقاً وطنياً على شكل الدستور الذي سيحدد مقومات الدولة، بدأ الإسلاميون بالموافقة على مضض، ثم المماطلة، وأخيراً رفضوا رفضاً مطلقاً، بل هددوا بـ"الاستشهاد" في حال تم الإصرار على مثل تلك الوثيقة.وجاءت الانتخابات البرلمانية، بعد نحو عشرة شهور من اندلاع الثورة لتؤكد للإسلاميين تفوقهم الساحق، وتمنحهم الصدارة بجدارة، بعدما أظهرت نتائج تصويت المرحلة الأولى حصولهم على أكثر من 60% من أصوات الناخبين في تسع محافظات تمثل ثلث محافظات البلاد.لكن الشهور العشرة التي فصلت بين اندلاع الثورة وإجراء الانتخابات شهدت تغييرين فارقين؛ أولهما أن الشعار الرائج في مصر اليوم، التي يتصدر الإسلاميون انتخاباتها، ويستعدون لتشكيل حكومتها، وصياغة دستورها، ليس "عيش... حرية... عدالة اجتماعية"، وثانيهما أن الجسم الصلب للثورة تشظى أو أُحبط أو انسحب أو تسرب في مسارات المماطلة والتباطؤ وهدير الانتخابات وتشويش الإعلام.لقد جرت عملية خداع كبرى وخطيرة للمجال العام في مصر، بحيث بات قطاع من المصريين معتقداً أن الإسلاميين هم من قاموا بالثورة، وأن تلك الثورة قامت من أجل "نصرة الإسلام" و"تطبيق الشريعة"، وكأن الإسلام كان مأزوماً أو مهزوماً في ذلك البلد المتدين بطبعه، والذي يحتضن "الأزهر" منارة الدين وقلعته.يخطط الإسلاميون للفوز بأغلبية ساحقة في الجولتين المتبقيتين في الانتخابات البرلمانية، قبل التخطيط لطرح مرشح رئاسي أو دعم آخر، قبل أن يصوغوا دستوراً "يصبغ المجتمع بصبغة الإسلام"، ليضعوا أسس دولة دينية على ضفتي النيل.والواقع أن الإسلاميين قد ينجحون في حصد أغلبية تفوق الـ65% في البرلمان المقبل، كما سيكون لهم تأثير في اختيار الرئيس المنتظر، وسيتحكمون بدرجة كبيرة بتشكيل اللجنة التي ستصوغ الدستور، ومع ذلك فإنهم لن ينجحوا في جعل مصر دولة دينية.ثمة عاملان رئيسان يحولان دون نجاح الإسلاميين في تديين الدولة في مصر: أولهما أن القوات المسلحة لن تسمح بذلك، وستستخدم كل الوسائل المتاحة أمامها لضمان عدم الوصول إلى تلك النقطة، التي تتناقض مع تصوراتها وتشخيصها لمصالحها والمصالح الوطنية عموماً، وثانيهما أن الثورة التي انكمشت راهناً، وتبدد زخمها، بسبب المماطلة والأخطاء المتراكمة وسوء الإدارة السياسية، لم تمت بعد، ولم تخمد جذوتها تماماً.سيحرص الجيش على الوقوف في وجه خطة تديين الدولة في مصر، كما سيرفض الجسم الصلب الناشط في الثورة خطفها أو تغيير مسارها، وهو أمر قد يوقف الضرر الناشئ عن محاولة سرقتها، لكنه ليس كافياً لإعادتها إلى السكة السليمة وتوفير طاقة دافعة لبلوغ أهدافها الحقيقية، التي لم تكن سوى "العيش، والحرية، والعدالة الاجتماعية".* كاتب مصري
مقالات - زوايا ورؤى
هل تصبح مصر دولة دينية؟
04-12-2011