يستنطق بنيس في كتابه «الشعر العربي الحديث» بنيته وإبدالاتها، وفرة من الأنساق والمفاهيم في الحقل النقدي العربي والغربي متوقفاً عند مفاهيم مثل، النص، والبنية، والشعرية كما عند ياكوبسون أو ما يتجاوز الشعرية إلى الدلائلية في الدراسات النقدية الحديثة كما عند جريماس. كل حسب منطلقاته النظرية.

Ad

ولكن هذا لا يمنع من أن يستعير الباحث مفهوم العتبة العليا، والعتبة السفلى من امبرتو ايكو. ويقوم باختيار التعريف الذي اقترحه يوري لوتمان، للنص. هذا التعريف الذي يرتكز على عناصر ثلاثة هي: التعبير، وتعيين الحدود، والخصيصة الثقافية.

تؤكد الأطروحة أن الشعرية مرتبطة هنا بالتصور النقدي لها وفي ذلك إشارة ربما إلى نقد مزدوج على حد قول المفكر المغربي عبد الكبير الخطيبي. نقد يصب في اتجاه الدراسات العربية القديمة والحديثة، والتي غالباً ما ارتكزت على مفاهيم، متعالية وميتافيزيقية. ونقد آخر يتجه صوب مساءلة النظريات الغربية، «الأوروبية والأميركية»، مبرراً هذا النقد إلى الكبت والتغييب اللذين مورسا على الشعرية العربية.

توقف الباحث، في القسم الأول، من الأطروحة أمام أربعة نصوص هي: «وقال يذكر أيام الشباب» لمحمود سامي البارودي، «نكبة دمشق» لأحمد شوقي، «الدمعة الخالدة» لمحمد بن إبراهيم، وقصيدة محمد مهدي الجواهري، الشهيرة «يا دجلة الخير»، متأملاً إياها في شعريتها وعناوينها والخطابات التي ترتكز عليها، من حيث اللغة والإيقاع وحالة الذات الكاتبة. وقد توصل إلى خلاصة لتعيين الحدود من أجل تمييز التقليدية عن الكلاسيكية، في الشعر الأوروبي، والشعر العربي القديم. واعتبر محمد بنيس أن بنية الشعر التقليدي، تتسم «بفردية النصوص ولانهائية قوانينها، كونها تصدر عن مفاهيم مثل، الخيال، والنبوءة».

هكذا تكون التقليدية ملامسة للحداثة من جوانب متعددة، رغم أن حداثتها ظلت محتجزة في دورة زمنية مغلقة، بحيث استحال عليها استعادة الماضي أو الانطلاق والتقدم صوب الحاضر والمستقبل.

حداثة تعبر عن انكسارها وانتفاء إمكانية تحققها. يمتاز الشاعر محمد بنيس في ما يطرحه من مقاربات نقدية في الفضاء الشعري العربي، بخصوبة معرفية ومرونة في الطرح وانفتاح على المنجز الشعري الحديث، ومحمد بنيس ليس ناقداً بالمعنى الحرفي فهو في الأساس شاعر، لكن هذا لا يمنع من أن يقدم جملة من الأسئلة النظرية تخص هذه الشعرية، وهي أسئلة لها علاقة بالزمان والمكان، بالذات والآخر، بالشكل والمضمون، بقلق الواقع وهاجس التاريخ وصولاً إلى جوهر الفعل الشعري كسؤال مفتوح على الوجود. هناك بالطبع دراسات نقدية كثيرة ومختلفة بعضها يستلهم مناهج تزاوج ما بين «صناعة الشعر» بالمفهوم العربي القديم وسائر أشكال النظريات الشعرية والنقدية الغربية، في محاولة توفيقية غير واضحة المعالم في أغلب الاحيان. بعض هذه المناهج يكون فضفاضاً إلى حد إخفاء النص المطروح للقراءة والبعض الآخر يتناول نصوصاً مجتزأة أو فقيرة إبداعياً، مما يطرح إشكالية تطبيق هذه المناهج على الأعمال الشعرية، المطلوب إذن هو قدر من الشفافية والوضوح الفكري والقدرة على تبيان العمق في قراءة النصوص أو الأفكار المطروحة في الخطاب النقدي بعيداً عن التعسف والتجريد المحض، وهذا ما فعله بنيس.