الإخفاق العربي المزمن: لماذا وما المخرج؟!
تنقسم الدول العربية إلى قسمين: دول ريعية متنعمة، ودول متسولة تعيش على المعونات الخارجية، أما القسم الأول فقد أنعم الله عليه بموارد الريع كالبترول والغاز فهو يأتيه رزقه رغداً من غير معاناة ولا بذل جهد ولا تحمل مخاطر، فأهله في عز ومنعة يعيشون رفاهية ويستخدمون آخر منجزات الحضارة، ويتمتعون بثمارها ويستخدمون تقنيتها لمصلحة مجتمعاتهم ومستلزمات معيشتهم، يسافرون شرقاً وغرباً ويتواصلون مع العالم من غير عقد أو شعور بالدونية أو الاستعلاء. وتلك نعم تستوجب الشكر للباري عز وجل أن رزقهم وأغناهم، فقد عاشوا دهراً في معاناة وشظف وقلة مورد، حيث لا نهر عذبا ولا زرع بهيجا ولا طبيعة تغري بالبقاء، وإنما هو بحر مالح مائج وبر كالح ومحيط من الرمال لا يتناهى! وشكر الخالق الرازق يقتضي حسن استثمار هذه النعم في بناء الإنسان الخليجي، وتنميته ليكون مواطناً منتجاً نافعاً لمجتمعه متفاعلاً مع عصره متصالحاً مع ذاته متقبلاً للآخر، لا أن يكون اتكالياً عالة على الريع همه المطالبة بما له من حقوق وامتيازات دون أن يلتزم بما عليه من واجبات ومسؤوليات تجاه وطنه. كما أن من دواعي الشكر توظيف هذه الموارد في تقدم المجتمع الخليجي وتنميته؛ ليكون مجتمعاً منتجاً لغذائه ودوائه وسلاحه لا عالة على عالم المزدهرين، وذلك لا يكون إلى بدعم وتقوية منظومة التعاون الخليجي التي تعد أنجح منظومة عربية مشتركة مقارنة بالجامعة العربية التي انتهت صلاحيتها بقيام ثورات الربيع العربي، كما أن من متطلبات شكر المنعم عز وجل الحذر من استنزاف الموارد في جيل واحد، فلا يبقى للأجيال القادمة ما يعينهم ويضمن لهم المعيشة الراقية، وذلك لعمري أمانة كبرى في أعناقنا علينا رعايتها وإلا استحق جيلنا مساءلة الأجيال القادمة على التفريط فيها. أما القسم الآخر وهو الأكبر من الدول العربية التي تعيش على المعونات والمساعدات والقروض، فقد كانت دولاً غنية متقدمة ومنتجة، وذات صناعات متطورة واقتصادات عامرة ونظم سياسية مستقرة، وحياة سياسية حرة، وبرلمانات فاعلة، ونظم اجتماعية متماسكة، وتعليم قوي، كانت شعوب هذه الدول تسودها المروءات والفضائل، أهل شهامة ونخوة وكرم، كانت شعوباً منتجة وصادقة في التعامل وشاء حظهم العاثر أن يصعد إلى سدة الحكم أناس غير مؤهلين عبر انقلابات عسكرية، استحوذوا على السلطة كغنيمة لهم ولأتباعهم. بدأت نكبة هذه الشعوب بانقلاب سورية 1949، فمصر 1952 فالعراق والسودان 1958، فاليمن 1962، وأخيراً ليبيا 1969، تسلم الثوار القوميون مقاليد هذه الدول تحت شعارات خدعوا بها الجماهير: الحرية والعزة والكرامة والوحدة، واستخفوا بالناس فأطاعوهم وتظاهروا مؤيدين لهم، وانساقوا كالقطيع من غير تبصر رافعين صور الزعماء الثوريين، فقادوهم إلى البؤس والخراب والهزائم المنكرة التي لا مثيل لها في تاريخنا. وفشل الانقلابيون الثوار في كل شيء وعدوا به، وكل المشاريع القومية والخطط التنموية انتهت إلى مزيد من المعاناة والبؤس، لا الوحدة العربية تحققت ولا فلسطين تحررت ولا العدالة الاجتماعية أنجزت، ولا خطط التنمية نجحت، تحكم القوميون "البعث والناصرية" بالبلاد والعباد، فأكثروا من الفساد، وانتهكوا الكرامات، وصادروا الحريات، وأذاقوا مجتمعاتهم الويلات، وزرعوا الخراب وبددوا الموارد والثروات. وليتهم اكتفوا بذلك لكنهم خربوا النفسية العربية، وأصابوها بالتشويه عبر زبانيتهم الذين مارسوا أبشع أنواع التعذيب في أقبية السجون الثورية، فلا عجب أن أصبح الإنسان العربي المقهور والذي تعرض إلى سلسلة من الإذلال والمهانة، طائفياً متعصباً وإرهابياً متطرفاً لا يبالي بتلغيم نفسه وتفجيرها في الآمنين الذين لا علاقة لهم بالصراعات، في مسجد أو عزاء أو مطعم أو حافلة ركاب أو مترو أنفاق أو الارتطام بطائرة بركابها الأبرياء بناطحة سحاب.حرضت النظم الثورية في هذا الإنسان البائس كل النوازع السلبية، وأحيت فيه الانتماءات الدونية من تعصب للقبيلة والطائفة والحزب وتطرف ديني؛ وذلك على حساب مفاهيمهم الوطنية والمواطنة والتسامح.
فتخريب النفسية العربية هو الجريمة الكبرى التي لا تغتفر لهذه النظم التسلطية، وإن تاريخ المجتمعات العربية المنكوبة في ظل هذه النظم الثورية ما هو إلا تاريخ لنصف قرن من الطغيان والقهر والقمع، وانتهاك الكرامات وممارسة التصفيات الجسدية، وتسلط زوار الفجر، وما أدراك ما زوار الفجر؟! إنهم يهبطون فجراً ويسحبون الضحية من فراش نومه ليختفي وراء الشمس، فلا يعرف أهو حي ترجى عودته أم ميت فيترحم عليه وتوزع ثروته! بددوا الثروات وضيعوا الآمال، وزرعوا الخوف في النفوس بين الحاكم والمحكوم.لقد كان رفع الشعارات القومية عبر نصف قرن خداعاً طويلاً وتزييفاً كبيراً للوعي القومي، وباسم هذه الشعارات وتحت راياتها ارتكبت أبشع الجرائم ضد المواطنين الشرفاء الذين جهروا بكلمة الحق في وجه سلطان جائر، نصف قرن من الفشل والضياع والإحباط، نصف قرن من القهر والطغيان أنتج شخصيات مستبدة مثل صدام والقذافي كما أفرز متطرفين دمويين مثل بن لادن والظواهري والزرقاوي، وهكذا وقعت مجتمعاتنا العربية بين فكي الاستبداد والأصولية! فشل الزعماء الثوريون فشلاً ذريعاً وخلفوا في مجتمعاتهم خراباً يباباً، ولم يتفوقوا إلا في شيء واحد بائس: هو ضرب الأرقام القياسية في عدد تماثيلهم وصورهم التي نصبوها في الميادين العامة، والتي كانت الهدف الأول في التحطيم من قبل الجماهير الثائرة في حركة الربيع العربي، وكان لا بد للجماهير العربية أن تثور على هذه الأوضاع المحبطة، وتكسر حاجز الخوف القائم من النظام البوليسي القمعي؛ سعياً وراء استرداد الحرية والكرامة والعدالة. قالت الشعوب كلمتها بأنها تريد العدالة والحرية، كما قال سمو أمير دولة قطر في حفل توقيع اتفاق سلام بين السودان وحركة التحرير والعدالة؛ معبراً عن تطلعات شعوب المنطقة للحرية والعدالة، وهنا تجب الإشادة بدور قطر الريادي والبارز، وإسهامها الفاعل في إنجاح حركة "الربيع العربي" في المنطقة، وبخاصة في الثورة الليبية وحماية الشعب الليبي من نظامه العدواني. لقد كان للدعم القطري: السياسي والإعلامي والعسكري والتقني والتدريبي والمالي الأثر الأكبر في إنجاح الثورة الليبية وتحقيق آمال الشعب الليبي في الحرية والعدالة والكرامة بعد أربعة عقود، فالنظام شكل كابوساً خانقاً لم يعرف له التاريخ مثيلاً، ولا شك أن هذا الدعم محل تقدير الشعب الليبي والمجلس الانتقالي ورئيسه، كما أن كل الأوساط الدولية وزعماء العالم الحر ينظرون بكل تقدير لدور قطر البناء والإنساني في نجدة الشعب الليبي، وهل هناك ما هو أسمى إنسانياً من نجدة وحماية شعب مستضعف من قبل نظامه القمعي؟! وقطر لهذه العون والإسهام الإنساني لا مطامع لها في ليبيا، ولا تريد جزاءً ولا شكوراً كما قال سمو الأمير في تصريحه "أنتم تعرفون أن قطر ولله الحمد دولة غنية وليست بحاجة إلى أي مساعدة من أحد، نحن تدخلنا من أجل الشعب الليبي، وفي نفس الوقت لا أحد يعتقد أن الشعب الليبي سيسمح لثرواته أن تنهب أوتستغل"، كما أن قطر اليوم تلعب دوراً قيادياً بارزاً في خدمة القضايا العربية، وبخاصة قضية إعلان دولة فلسطين، وسمو الأمير بنفسه وشخصياً يكرس كل جهوده ومساعيه في هذه الأيام، ومن خلال الجمعية العامة للأمم المتحدة وعبر المشاورات واللقاءات مع الزعماء والرؤساء من أجل تذليل العقبات وإنجاح الجهود الفلسطينية والعربية في إعلان عضوية دولة فلسطين المرتقبة بإذن الله تعالى،وقد أعرب الرئيس الفلسطيني عباس عن شكره وتقديره للدور القطري واصفاً هذا الدور بأنه "شكل عامل قوة كبيراً قبل توجهنا إلى الأمم المتحدة لطرح ملف العضوية"، ولذلك فإن قطر بهذه الإسهامات الكبيرة والدور الريادي والمساعي الخيرة، وبما لها من مكانة عالمية كبيرة وكلمة مسموعة في الأوساط الدولية، وبما عندها من القدرات والإمكانات مؤهلة للقيام بدور قيادي نهضوي في عبور الفجوة الحضارية بين المجتمعات العربية وعالم المزدهرين. وبعد: فإن المأمول من ثورات "الربيع العربي" ألا تكتفي باستبدال نظام بنظام وتغيير حاكم بحاكم، بل نريدها ثورة على البنية الثقافية التحتية التي تنتج الأوضاع المستبدة، وهي بنية متوارثة شديدة الرسوخ تعيد إنتاج كل الأوضاع المحبطة، والتي تشكل عوامل إعاقة دائمة وكامنة وراء الإخفاق العربي المزمن.* كاتب قطري