الإفريقي

نشر في 19-09-2011
آخر تحديث 19-09-2011 | 00:03
 فوزية شويش السالم رواية الإفريقي للكاتب لوكليزيو الحائز جائزة نوبل تكشف للقارئ عن المعاناة الهائلة التي يتكبدها هؤلاء الرواد الأوائل المستكشفون لتلك الأماكن المجهولة النائية في غموضها المريب المتوحش، ومن هذه الأماكن إفريقيا، وليست هي إفريقيا التي نعرفها اليوم بكل وسائل الإعلام المتاحة، ولكن هي إفريقيا عام 1928 من القرن الماضي، حيث كانت الاكتشافات الأولى لتلك القارة المنسية في «مجهولها» البدائي الغارق في عنف طبيعة غريزته الأولى البعيدة عن كل مظاهر التحضر والتدجين.

وهذا ما كشف عنه لوكليزيو في روايته الإفريقي التي ظننت للوهلة الأولى أنها ستكشف لي عن حياة فرد أصله من تلك القارة، لكنني اكتشفت أن المعني بالإفريقي هو والد الكاتب لوكليزيو الطبيب الذي عاش في الأدغال الإفريقية أكثر من 20 عاما، كطبيب وحيد على أراض كبيرة لبلاد بأكملها، تحمل فيها مسؤولية صحة آلاف من البشر.

هذا الطبيب المنحدر من أصول فرنسية عشق إفريقيا وتوحد بها حتى تغرب عن هويته الأصلية، وباتت إفريقيا هي هواه وعشقه وهويته وانتماؤه ودمه لآخر عمره، فقد وسمته إفريقيا بعلامة ستصاحبه حتى موته، وسوف تجعله يتقيأ على العالم الاستعماري وظلمه المزهو بنفسه.

هذه الصورة هي التي كان يكرهها جعلته ينحاز إلى المواطنين الأفارقة على الأوربيين الذين هم من ملته، كما كتبها ابنه.

كان يبحث عن شيء من البراءة المفقودة في بلد سيكون فيه الطبيب الأوروبي الوحيد الذي جعلته إفريقيا يحمل كرها عميقا للاستعمار بكل أشكاله.

هذا الكره للاستعمار الأوروبي سينتقل إرثه إلى لوكليزيو ذاته، الذي سيرى بعيني أبيه مقدار الظلم الذي خلفه الاستعمار على بلاد كثيرة وسينحاز بمشاعره إليها.

رواية الإفريقي رواية رائعة محملة بعنف طبيعة إفريقيا في بكارتها الأولى، التي انعكست على ذاكرة الكاتب الذي أمضى طفولته فيها، وخبر براءتها الأولى في تلك الأمكنة البدائية البعيدة تمام البعد عن أي شكل من أشكال الحضارة وأقنعتها.

عاش في طبيعتها الفوارة بالعنف بكل أشكاله سواء كان من الطبيعة ذاتها أو من الإنسان، وكتب عن تلك الأمكنة التي لم يعد لها وجود إلا في ذاكرة من عاشها، عن تلك «الوحشية المجانية التي يحب أن يمارسها الصغار ضد كل شكل من أشكال الحياة دون مقدرة الدفاع عنها، مثل قطع قوائم خنافس البطاطس، هدم جدران قلعة الأرضة إحراق عقرب حاملة لأجنتها».

وكما كشف عن نهارات الركض في أعشاب اوجوجا المرتفعة، كانت تلك هي الحرية الوحيدة في السافانا.

كتابة مليئة بتدفق الحياة فيها، فهذا هو أسلوب لوكليزيو الذي يكتب بحواسه الحية كلها ويبث كل مشاعره فيها، ولتنتقل بدورها إلى القارئ الذي يشعر بها كما شعر بها كاتبها، وهذه هي ذروة قيمة الإبداع الفني وأصالته.

رواية إفريقيا كشفت عن مقدار الجهد الذي عانى منه هؤلاء الأطباء والرحالة والمستشرقون والفنانون الأوائل الذين كابدوا مشقة الترحال والسفر لكشف ومعرفة تلك الأماكن حينما كانت ترزح تحت قسوة بدائيتها المجهولة.

كيف استطاعوا تحمل كل هذه المشاق لأجل حبهم وشغفهم للاكتشافات والمعرفة في زمن لم توجد فيه صور أو معلومات تفتح لهم الأبواب المغلقة حتى أن بعضا من تلك الأماكن ليس لها أي وجود على الخارطة.

واللافت للنظر أنه بالرغم من كل هذه القسوة والوحشية والعنف في حياة هذه الأمكنة البدائية، إلا أنهم قد عشقوا الحياة فيها ونسوا واقعهم الذي أتوا منه مثل والد لوكليزيو الذي عاش وكأنه لم يغادر إفريقيا، أو أن إفريقيا لم تغادره، لقد أثرت فيه إفريقيا وسرقته من حياته، لو كان يريد أن يحيا بشكل آخر.

لوكليزيو كتب سيرة حياة والده في إفريقيا ولمحات من طفولته مع أخيه حينما كانا برفقة والدهما ووالدتهما في  سرد روائي جميل ومؤثر، وكان في النهاية والده هو الإفريقي حتى وإن كان ليس من إفريقيا.

back to top