يعرف كثيرون من المواطنين العرب عموماً، والخليجيين خصوصاً، مصر معرفة عميقة، ربما كما يعرفون بلادهم تماماً. ولأسباب عديدة؛ تجد ملايين منهم يهتمون بأخبار "أم الدنيا"، ويعرفون لهجة أهلها، ويدركون حكمتهم، ويفهمون تقاليدهم، وينشغلون بأمورهم، وهم يفعلون ذلك انطلاقاً من محبة صافية، واستناداً إلى وشائج قوية، وتجسيداً لمصالح وروابط قائمة، وهو أمر يفهمه المصريون، ويعتزون به كثيراً.
ولأن المصريين، بطبيعة الحال، من تلك الشعوب التي تنتمي إلى دول مركزية عريقة، وتشكل مجتمعات واسعة وممتدة، وتحفل بمشكلات وتحولات صارخة، وتمتد بتراثها وتاريخها في أعماق الزمان والمكان، فإنهم ينشغلون بذاتهم الجمعية كثيراً، ويتصورون الدنيا من حولهم صغيرة، فيكتفون بالداخل وأخباره ومساراته، إلى حد أنهم ينكفئون أحياناً عليه؛ فتضعف اهتماماتهم بسياسات إخوانهم وجيرانهم.ليس الحرج وحده هو ما يمنع المصري عادة من التدخل في سياسات أشقائه العرب الآخرين الداخلية، أو الانخراط بوضوح في التعليق على نظم الحكم وتقييم الزعماء، بل أيضاً قلة الاهتمام، والرغبة في تفادي المساءلة، والغوص حتى شعر الرأس في جدال الداخل المصري وصخبه الذي لا ينقطع.لكن المصريين، رغم ذلك، فخورون جداً باهتمام إخوانهم العرب بالشؤون المصرية، بل حريصون على تعظيم ذلك الاهتمام؛ سواء عبر الفنون والآداب والرياضة، أو حتى في ما يتعلق بالشأن السياسي.ولهذا السبب، فإن المصريين توقعوا بالطبع اهتماماً عربياً كبيراً بأحداث ثورة 25 يناير، وتوقعوا أيضاً مواقف وآراء عربية حيال الثورة قد تتسق مع الرأي العام المحلي أو تتناقض معه.يمكن ببساطة شديدة أن يلحظ أي متابع مدقق أن تياراً عربياً واسعاً يدعم ثورة 25 يناير دعماً شديداً مطلقاً، بل يستلهمها وينهل من إبداعاتها وربما يسعى إلى استنساخها في بلد أو أكثر، ويمكن أيضاً ملاحظة أن هذا التيار ينشط ويظهر بعيداً عن دول الخليج العربية.فباستثناء قطر، التي أظهرت نخبتها الحاكمة ارتياحاً لإطاحة مبارك ومحاكمته، وزادت ذراعها الإعلامية "الجزيرة" لتعبر عن "تشف" و"شماتة"، فإن قطاعاً كبيراً في الشعوب الخليجية، ومعظم وسائل الإعلام التابعة لدول الخليج أبدت قدراً ملحوظاً من عدم الارتياح، الذي وصل أحياناً إلى الاستهجان والإدانة، لما يحدث بحق الرئيس المصري المخلوع.لا يقتصر الأمر فقط على هذا الشعور الواضح في الشارع والرأي العام والمنتديات والديوانيات والإعلام بشقيه "التقليدي" و"الجديد"، ولكنه يظهر في إشارات وقرائن ودلائل واضحة على استياء النخب الحاكمة والمسؤولين الخليجيين من الطريقة التي يعامل بها مبارك وأسرته.ثمة الكثير من الأنباء التي أفادت بأن أنظمة خليجية بعينها عرضت على مبارك الاستضافة قبل إطاحته مباشرة، وأن دولاً ومسؤولين تدخلوا لدى السلطة العسكرية التي تدير شؤون البلاد في مصر لتخفيف الضغط على الرئيس المخلوع، بل وصل الأمر إلى تسريبات مقنعة بصدقيتها عن "ضغوط" مورست على السلطة الانتقالية في مصر لضمان عدم الإفراط في الإجراءات التي تتخذ بحق الرئيس السابق.أعرف أن المصريين سيقدرون كثيراً اهتمام إخوانهم بشأنهم الداخلي، وسيعتبرون إبداء التقدير لمبارك، كرئيس وعسكري مصري سابق، والحزن على ما آلت إليه حاله، والاستياء من الوضع الذي بات فيه، من باب الشعور بالشفقة، وجزءاً من الاهتمام العام بـ"أم الدنيا" وأحوالها، لكنني أعرف أيضاً أن التعريض بثورة 25 يناير، أو المساس بشهدائها ومصابيها وشبابها، أو الطعن في مناقبهم وأخلاقهم العامة بسبب موقفهم من مبارك، ربما يزعجهم ويجرحهم كثيراً. قد يكون مبارك بالفعل رئيساً مصرياً مثالياً من وجهة النظر الخليجية؛ فقد حافظ الرجل على استقرار الأحوال في بلاده والمنطقة العربية التي لم يصدر إليها المشاكل، وعزز الروابط مع دول الخليج بوضوح، وقاطع إيران ووقف لتحرشاتها بدول مجلس التعاون بالمرصاد. وهرع للانضمام إلى التحالف الدولي عندما غزا العراق الكويت، وتضامن مع البحرين في أزمتها مع طهران، وحافظ على تحالفه الوثيق مع السعودية في أغلب الأحيان، ونظم علاقة عميقة قائمة على الصداقة والاحترام مع عمان وسلطانها، واتخذ موقفاً من إسرائيل وعملية السلام و"حزب الله" و"حماس" متقارب جداً مع التوجه العام لدول الخليج.ليس هذا فقط، لكن مبارك أيضاً فتح الأبواب أمام الاستثمارات الخليجية في مصر، سواء كانت من تلك الاستثمارات التي أفادت بلاده إفادة كبيرة، وعززت اقتصادها الوطني، أو حتى من تلك التي حققت أرباحاً خيالية في أزمنة قياسية بسبب طبيعتها الملتبسة والتسهيلات غير المحدودة، وغير المنطقية، التي حظيت بها. أبقى مبارك على مصر كما يحب قطاع كبير في دول الخليج أن تكون؛ فهي ليست بالصلبة أو الحادة أو الطموحة أو المتطلعة من جهة، وليست بالمزعجة أو الغارقة أو مصدرة المشاكل من جهة أخرى، وفي كل الأحوال فقد كانت طيعة وناعمة ومرحبة ومربحة، سواء كان الأمر يتعلق بالسياسة أو العمالة أو السياحة أو العلاج أو الاستثمار السريع الساخن.لو شارك الخليجيون في انتخاب حاكم لمصر اليوم، فربما يصوت معظمهم لمبارك، وهو أمر يظهر بوضوح في مواقف بعض النخب في السياسة والثقافة والإعلام، كما يظهر في مشاركات الجمهور وتعليقاته في المنتديات ووسائل الإعلام المختلفة.سيكون المصريون قادرين على تفهم هذا الشعور الخليجي واحترامه، طالما أنه لم يقترن بالطعن في أخلاقهم العامة أو بإهانة الثورة أو المساس بالثوار، وسيقدرون كثيراً اهتمام أشقائهم بأحوالهم وسياساتهم وزعمائهم.مبارك زعيم خليجي بامتياز، لأنه، وفق هذا التحليل، سيفوز بالانتخابات الافتراضية التي قد يصوت فيها الخليجيون لاختيار رئيس مصر، لكنهم من دون شك، لن يعطوه، هو أو من يشبهه، أصواتهم، إذا كان مرشحاً لمنصب قيادي في إحدى دولهم.* كاتب مصري
مقالات - زوايا ورؤى
مبارك... زعيم خليجي
03-07-2011