... خطيئة حكومية جديدة!
كنت تحدثت عن هذا الموضوع منذ مدة ليست بقصيرة في بعض الدوائر الطبية المغلقة، وعدت للحديث عنه أخيراً عبر شبكات التواصل الاجتماعي، وأتناوله اليوم بشكل أكبر من خلال هذا المقال، بعدما وجدت تحركا حكوميا متسارعا تجاه هذه المسألة التي كنا سمعنا أنباءها وظننا أنها مجرد فكرة عابرة لن تجد من يلتفت إليها لخطئها البيِّن الفاحش، بل وكنا ظننا أنها ستجد معارضة من الإدارة العليا لوزارة الصحة نفسها، لأنهم هم الأطباء الذين يعرفون ويدركون معنى الأخلاقيات الطبية! الحكاية كالتالي: تعتزم الحكومة بناء ما يسمى بمستشفيات الضمان الصحي، وهي ثلاثة مستشفيات، بحسب ما أعلن، ستقوم بتوفير الخدمة الصحية للوافدين، ولكن ليس كل الوافدين، حيث سيتم استثناء أولئك العاملين في الحكومة، والعمالة الوافدة المحترفة التي تعمل في القطاع الخاص، وكذلك العمالة المنزلية، وربما شرائح أخرى ستقرر الحكومة استثناءها. أي بمعنى آخر، ستكون هذه المستشفيات فقط "لعزل" أولئك الوافدين الذين يعملون في الوظائف اليدوية والبسيطة، وهم الذين يقدر عددهم، وفقا لتقرير شركة "الشال" الاقتصادي بمليون ونصف نسمة. تحدث هذا التقرير في عدد له صدر منذ فترة بسيطة عن الموضوع قائلا: "إن الكويت تسير في اتجاه ارتكاب خطيئة أخرى، مثل خطايا التعامل المبكر مع أزمة البدون أو الاتجار بالبشر أو تركيبة السكان"، مشيرا هنا إلى مشروع مستشفيات الضمان الصحي، مؤكدا أنه غير مجدٍ مالياً ما لم يقم بتقديم خدمات رديئة منخفضة التكلفة، فضلا عن كونه سيضع سمعة البلد على المحك على الصعيد الإنساني. وأشار تقرير الشال الاقتصادي إلى أن فشل المشروع من الناحية المالية يأتي من جانبين؛ الأول، هو أن حجم الشريحة المؤمن عليها صغير، حيث ستكون الشريحة المرشحة للاستفادة ليست كافية لأن تدر دخلا ماليا مجديا للمشروع. والجانب الثاني يأتي من باب تقدير التكلفة مقابل شمولية الخدمات، فقد روعي خفض قسط التأمين إلى الحدود الدنيا، لأن من سيدفعه هو رب العمل، في مقابل شمولية الخدمات ما بين نزلة البرد والجراحات الكبيرة، وحتى خدمات طب الأسنان العادية، وذلك يعني إما إفلاس المشروع وعودة الحكومة عنه، بعد تكبيد المال العام خسائر كبيرة، وإما أن تكون الخدمات المقدمة رديئة ودون الحد الأدنى، من حيث الكفاءة البشرية وكفاية المعدات والأدوية، وتلك جريمة طبية أخلاقية. بالنسبة لي شخصيا، لا يهمني الجانب الاقتصادي للموضوع، فحتى لو كان المشروع مجديا اقتصاديا، فأنا أرفضه تمام الرفض لتعارضه عندي مع أبسط المبادئ والأخلاقيات الإنسانية، فضلا عن تلك القواعد التي تعلمناها في أدبيات مهنة الطب بل وأقسمنا عليها، والتي تقول إنه لا يجوز التفرقة في الخدمة الطبية بين الناس، لا لعرق ولا لجنس ولا لدين. أستطيع أن أفهم تماما معنى أن يكون هناك تأمين صحي على شريحة معينة، ولكن لا يمكن أن أقبل أن هذه الشريحة ستحصل لذلك على خدمة طبية من نوع أقل كفاءة وجودة، وهو الواضح أن هذا المشروع "الجريمة" سيتجه إليه!إن كانت المسألة تنظيمية بحتة وستساعد على تخفيف الازدحام والارتقاء بالخدمات للجميع، كما يزعم من يقفون خلف المشروع، ومعهم من تحمسوا له دون أن يعرفوا خفايا المسألة، فأقول لتضخ هذه الأموال الطائلة التي سترصد لهذا المشروع، وهي التي ستصل إلى أكثر من ٨٠٠ مليون دينار خلال السنوات العشر الأولى، لتطوير ذات الخدمات الطبية العامة الحالية، وليتم الإضافة إليها بمنشآت جديدة وتوسعتها، بحيث يستفيد منها الجميع، من كويتيين ووافدين، دون الحاجة إلى عزل فئة من البشر في مستشفيات بعينها لجنسيتهم فقط!
وكذلك رداً على من يحتج بأمثلة المستشفى العسكري ومستشفى الأحمدي، باعتبار أنهما يقدمان خدماتهما لشرائح محددة، فأقول إن هذه أمثلة مع الفارق الشاسع. صحيح أن هذين المستشفيين يخدمان شرائح تعمل في قطاعات بعينها، لكنهما لا يميزان بين من يعملون هناك على أساس الجنسية، فهما يقدمان الخدمات لكل من يعمل هناك بغض النظر عن جنسيته، وهذا ما يضمن أن الخدمة للجميع من ذات الكفاءة والجودة.خلاصة القول، إن مشروع مستشفيات الضمان الصحي مشروع شائن لا إنساني، ويجدر بالحكومة أن تتراجع عنه الآن، قبل الخوض فيه أكثر وتكبد الخسائر، وقبل أن تفوح رائحته العنصرية فتصل إلى الخارج، كما وصلت روائح خطاياها العنصرية السابقة، كما ذكر "تقرير الشال".