للحداثة حكاية دامية
إن كان أهل مكة أدرى بشعابها، فالدكتور عبدالله الغذامي، بلا شك، كان أدرى بشعاب ومنعطفات وسمات مجتمعه، حين تصدى لتأليف كتابه عن حكاية الحداثة والتحديث في السعودية. وقد جاء هذا المؤَّلف استكمالاً لحيثيات مشروعه النقدي حول (الأنساق الثقافية)، وهو المشروع الذي قدّم له بكتابه الأشهر في النظرية النقدية، وهو (الخطيئة والتكفير). وتبدو السمة الأكثر جذباً في هذا الكتاب، متمثلة في نَفَسه الأقرب إلى السيرة الحياتية، أي سيرة حياة مجتمع مدغمة بسيرة حياة فرد في هذا المجتمع، هو عبدالله الغذامي نفسه، حين رصد صراعه الفكري ومعاركه الثقافية بمستوياتها المختلفة، مع مجتمع محافظ وتقليدي، بل مفرط في حفاظه على (سكونيته)، ودفاعه عن (أنساقه الثقافية) بضراوة ، كما عبّر الكاتب.
تذكرتُ حيثيات هذا الكتاب مرتين: مرة حين تابعت جانبا من اللغط الذي دار في الفيس بوك والفضائيات، حول ملتقى ثقافي مختلط أقيم في ردهة فندق الماريوت في الرياض، لتبدأ بعدها عاصفة من الأقاويل والاتهامات حول سمعة كل من حضر هذا الملتقي، ولتنال المرأة النصيب الأفدح من ذلك القدح المبطن بالتربص وسوء النية. أما المرة الثانية فهي حين قرأت عن التحركات التي بدأها مجموعة من المشايخ ورجال الدين لمنع إقامة معرض الرياض للكتاب المزمع أوائل شهر مارس القادم، وقيامهم بإصدار فتوى دينية تعتبر أن: "ارتياد معرض الرياض للكتاب من المنكرات، ومن ثم فهو محرّم للمسلمين والمسلمات. واعتبرت الفتوى أن شراء الكتب الهدامة من المعرض محرم، لأنها تنال من عقيدة المسلم". في محاولة لتفسير ما يحدث، علينا بالعودة إلى سياق حكاية الحداثة في المجتمع السعودي التي رواها الغذامي وبدأها بإلقاء بعض الضوء على الخلفية الاجتماعية/ الاقتصادية التي تصنع تلك المفارقة. حين رأى "أن هنالك انفصاماً تاماً بين عمارة المكان وعمارة الإنسان، حيث صارت التنمية مكانية أكثر منها بشرية، وانتزع البعد الإنساني فيها، حتى أنك لتشعر بلاإنسانية المكان. لقد صار المكان عندنا أرقى من الإنسان، وصار المكان هو الحداثي لإنسان لما يزل خارج اللعبة". ويبدو أن البعد الأشدّ تأثيراً -في (الحكاية)- على زعزعة تلك المحافظة والتقليدية هو المتمثل في الفكر النقدي والتجارب الأدبية الرائدة في مجال النقد والرواية والشعر. ومن هنا نستطيع أن نتلمس الخيط الذي يربط بين ملتقى ثقافي أو معرض كتاب وبين تلك الهجمات الشرسة من حرّاس قيم المحافظة والتقليدية. لقد أفاض الغذامي في الحديث عن ردود الفعل الذي أثارها كتابه (الخطيئة والتكفير) الذي ظهر عام 1985م، والذي يعدّ بمثابة (العلامة) في سياق التأريخ للحداثة في السعودية. إذ يرى تطور مسار الحركة الأدبية والفكرية من الشعر والقصيدة بصيغتها الحداثية الحرة، إلى النقد والنظرية النقدية، التي أصبح لها كيانها المؤثر والمستقل، ولم تعد خادمة للنصوص أو متماهية معها. وبذلك حوّلتْ النظرية النقدية السؤال من سؤال في الإبداع، إلى سؤال في الفكر، وإلى سؤال في المقولات الاجتماعية والثقافية وأنساقها الموروثة، حين أصبح النقد تفكيكاً وتشريحاً، وليس تفسيراً وتأويلاً. إنه فكر نظري يقلب كل المعادلات، إذ لم تعد المسألة مجرد تذوق وأحكام ذوقية، وإنما جاءت النظرية النقدية لتقلب العرف والفهم وتعيد أسئلة اللغة والعقل. إنها مشروع في إعادة النظر وتفكيك الخطاب، وتشريح الثقافة كلها. وحين يصل الأمر إلى تشريح الكينونة الثقافية ونقدها، حينها لا بد أن تُستنفر كل الأسلحة الممكنة! ثم يفسر الغذامي هذا التسابق والتكالب بالنعيق على الحداثة، بأنه مؤشر نسقي على استجابات الثقافة المحافظة، وموقفها مما يهز قيم هذه المحافظة ويهدد بتغيير أنساقها. إن المسألة في نظرهم أخطر من مجرد تغيير ذوقي بلاغي، لأنها تغيّر في النسق الذهني والعقلي، وتشرّح كل ما هو رمزي في ثقافتنا. ولهذا قابلوها بالهجوم، بوصفهم صوت النسق وضميره المضمر. ومن هنا يمكننا أن ندرك إلى أي مدى يمكن لملتقى ثقافي أو معرض كتاب، بما يحملانه من رمزية أدبية/ فكرية أن يكونا بوابات مفتوحة على الجحيم!