تشترك طبائع التفكير وأنماط الرصد في رسم صور الظواهر السياسية، لتحديد الموقف منها، وهو موقف يميل في المجتمعات التي راكمت العلوم التجريبية والثقافة الشعبية، نحو إلزام التحليل السياسي ومنطق التعبير بالأسباب الموضوعية، وربطهما مع الواقعية بقناة واضحة، وإن طالت وتعرجت.
لكن الفكر التجريبي القائم على المراقبة والاستقراء، والذي رفع العلوم في عدد من أقطار العالم، ثم نسخته السياسة تماشياً مع تطور حق الشعوب، ما زال يبحث في لبنان، وعند بعض العرب، عن موطئ فكر بين فلتات العقل الفردي الذي يتلقى الظواهر السياسية بخياله ويعيد رسمها بنفس الخيال.استماتت قوى "14 آذار" لمواجهة خطوة تنازل رئيس مجلس النواب نبيه بري المفاجئ عن حقيبة وزارية من حصة الشيعة الميثاقية لمصلحة بت تأليف الحكومة والتخلص مما كان سبباً رئيسياً في التأخير، فاستحضرت الأسباب والتحليلات من كل حدب وصوب وضربت أخماساً بأسداس في مباراة تشويه الصورة، بمساندة حبر أحمر يمقت أقلام المنطق.رُكبت الصور فوق الصور لتفسير خطوة بري، فأعطى الانتهاء من معركة جسر الشغور التي ظهر اسمها إلى الإعلام منذ أيام، مجالاً لتأليف حكومة لبنان المراوحة مكانها منذ أشهر، أو ربما أوحى بها إلى السوريين خسوف القمر، أو أن بركان أريتريا هدّد استثمارات الرئيس المكلف نجيب ميقاتي في إفريقيا فطلب من السوريين أن يضغطوا على بري لتقديم هذه الفكرة.وقد يحاول البعض أن يكون أكثر دهاءً، فيعتبر أن فكرة بري تأتي ضمن مخطط إيراني- سوري ممنهج لضرب صيغة النظام الطائفي في لبنان، والذي أصلاً هو نظام مقيت. والبعض الأخر يتفنن في تركيب الجمل والعبارات ليضرب كل العصافير بحجر، فيرى أن الخطوة تهدف إلى ضرب السنّة في لبنان عبر تحميلهم وزر الحصول على حقيبة إضافية وإنهاء دور المسيحيين عبر إجبارهم على التنازل عن حقيبة بعد سنوات عدة.أما الأكثر موضوعية، فيؤكد أن فكرة بري ولدت فعلاً على الطريق إلى قصر بعبدا، لكن السوريين هم من افتعل أشغال الطرق قبل القصر لتبليغ بري رسالة عبر نافذة السيارة تطلب التخلي عن وزارة!الصور تتركب وتتداخل، ويتمشى مختالاً من لمع في ذهنه تبرير أكثر خيالاً حول فكرة رئيس البرلمان. أما التفاصيل التي تقاطعت عند أكثر من جهة وتحرك ميقاتي المفاجئ وما حصل في قصر بعبدا، فكله مسرحية مفبركة، فقط لأنه يقرب المنطق. والمعركة هي في ساحة تلتزم التحليل السياسي التقليدي الذي لا يأبه بإمكان وجود أسباب منطقية وموضوعية ويصر على ربط الأحداث بحدث سياسي أكبر، وإن عبر المخيلة. من نافل القول إن الوعي الشعبي العام يستعصي مع الأزمات، وتقوده العصبية كلما اشتد الاستقطاب، خصوصاً في بلدان تفتقد تراكم الاستقرار وسيادة العلم على الشعوب، ما ينتج طبقة سياسية قاصرة في معظمها عن فهم حقيقة احترام الإنسان، إلا أن تنوع الأحزاب وهامش الحرية يشجعان على الأمل في صنع مقاربات تتخطى الآنية، وتستحضر الأشكال السليمة في الخطاب السياسي، لحفظ الاستقامة في العقود الاجتماعية الأفقية والعمودية.وعلى الرغم من أن القصور في فهم الحكم الرشيد يمنع من جعل وزارة التربية والتعليم الوزارة السيادية الأولى في لبنان، فإن البلد ما زال يستند إلى مخزون تربوي ممتاز، يقدم كل أسباب الارتقاء بالأجيال، فحري بساسته ملاقاة هذه النعمة، عبر بث روح المسؤولية في حلبة السياسة وتقييد الفكر بين حدي الواقعية، ولجمه عن فلتات الخيال التي قد تمعن كرهاً وتسقط دماء في شوارع الاستفزاز. حبذا لو يتبرأ ساسة لبنان من نظرية المؤامرة التي يعلنون أنها مبتذلة وفي نفس الوقت لا يجيدون سواها. فمن حق كل سياسي تفنيد ساسية الآخر ومعارضة نهجه، عبر المنطق الذي يرفع الشعوب ويصون الحقوق، وليس عبر خيال يقوده الكره الأعمى، ويستنجد بكل ومضات العقل ليشكك في حقيقة أن خصمه قد خلق!
مقالات
سابقة بري وخيال 14 آذار
19-06-2011