لم تكن الحالة التي تسلم فيها ذوو بهاء موسي جثمانه إلّا دليلاً صارخاً على بشاعة وهمجية الجانب الذي يحرص على إخفاء ما يسمى بالحضارة الإنسانية وعلى رأسها الحضارة الغربية.

Ad

وحيث إن هناك جوانب مشرقة في تجليات البشر أياً كانوا، فإنه لابد من كشف جوانب الخلل والبشاعة، التي قد تلتهم كل ما ينجزه الناس لخير الناس، فلا يتبقى لدينا، والحال كذلك، إلا حفنة من المغامرين والجشعين ليسيطروا على المشهد السياسي في العالم وينسبوا كل ما فيه من خير لهم.

حكاية قديمة جديدة سمها ازدواجية معايير أو انتقائية، إن شئت، يمارسها الجميع دون استثناء قوياً كان أم ضعيفاً ليوهم نفسه ومحيطه بأنه على حق، تحدث على كل المستويات، إلا أنها تصبح أكثر إيلاماً وأشد وطأة عندما تأتي ممن يمتلك ناصية القوة الماحقة والهيمنة الدولية.

بهاء موسى شاب عراقي كان يعمل موظف استقبال في أحد الفنادق في البصرة سنة 2003، تم القبض عليه وتعذيبه حتى الموت. التقرير الذي أنجزته لجنة التحقيق الخاصة البريطانية بمقتل موسى، وهو قيد الاحتجاز لدى وحدة عسكرية بريطانية عاملة في جنوب العراق في 2003، كشف تفاصيل مؤلمة لكيف يمكن أن تتحول قوة عسكرية لبلد ديمقراطي غربي، إلى حالة بائسة من الاستهتار بأرواح البشر، وبالتالي لا يعود هناك فارق كبير بين ما يجري من قمع مرعب في بلادنا وسجوننا وما يقوم به رواد المسماة بالحضارة الغربية إلا في الدرجة.

عندما نشرت نتائج التقرير في 8 سبتمبر الماضي عادت بي الذاكرة إلى تلك الأيام، منتصف 2003. كنت حينذاك ضمن فريق دولي يجوب العراق للمراقبة والضغط على القوات الأجنبية المحتلة لكي تلتزم بمبادئ القانون الدولي الإنساني، وهي ذات المبادئ التي كانت تنتهكها أمام أعيننا. سجلنا الشكوى تلو الشكوى وعقدنا الاجتماع تلو الاجتماع  مع مسؤولي قوات الاحتلال لكن دون جدوى، استمرت الممارسات العبثية الهمجية من قبل قوات يفترض أنها نظامية ولديها قدر من الالتزام بما يسمى الانضباط العسكري، وقمنا بنشر الكثير مما كان بحوزتنا من معلومات في تقارير موثقة، وعندما ظهرت على السطح فضيحة سجن بوغريب لم تكن مفاجأة لي شخصياً ولكن المفاجأة كانت في درجة الاستهتار واللاانضباطية لدى القوات الغربية المحتلة وفي عدم قدرتها حتى على الالتزام بأبسط قواعد الاشتباك.

لا يعنيني هنا البعد السياسي، فالإنسان واحد وكرامته واحدة وحقوقه لا تتبدل حسب الهوية السياسية للمعتدي أو حسب من يكون المعتدى عليه.

بالطبع لدينا في سجوننا العربية آلاف الحالات من أمثال بهاء موسى، لكننا أو هكذا يفترض، بلاد متخلفة لا تحترم الإنسان ولا تعطي قيمة لكرامته، وذلك ربما كان أحد أسباب بزوغ فجر الربيع العربي ضد أنظمة قمعية تمارس أبشع الممارسات ضد مواطنيها.

خلاصة القول إن من ينطلق في رؤيته لانتهاكات حقوق الإنسان على أسس سياسية، فإن انتقائيته ستنكشف سريعا. ولا أدل على ذلك من كيفية تعاملنا مع الربيع العربي، فهو لدى بعضنا ربيع وأزهار وشقشقة بلابل، ولدى بعضنا الآخر، كوارث وسيول وزلازل لابد لها أن تتوقف، فإن كان ممانعاً، فله أن يتغول ويفترس شعبه افتراساً باسم الصمود والتصدي، وإن كان معتدلاً فالثورة عليه مستحقة، والعكس صحيح، سواء بسواء.

ولن تنتهي تلك الحالة الضبابية إلا حين يدرك الجميع أن كرامة الإنسان كل لا يتجزأ، وأنه بدون أن تكون هي، وهي وحدها، الأولوية العليا فإنه لن يكون هناك استقرار، ولا سلام، ولا أمن، ولا أمان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.