دب خلاف
بحسب ما نشرته جريدة عكاظ السعودية أقام أحد المثقفين في مدينة جدة في منزله أمسية ثقافية على شكل مناظرة بين عالم في علوم الشريعة، وأستاذ في العلوم الاستراتيجية يبحث في العلم الشرعي، وكان عنوان المناظرة هو "الحور العين.. وهل يوطأن في الجنة أم لا؟".ويبدو أن هذه المناظرة جاءت لأن الأستاذ الاستراتيجي نشر مقالاً يتحدث عن الحور العين في الجنة، وهي القضية التي استغلها كثير من الطلبة الشرعيين والدعاة لإغراء واستقطاب الشباب إلى حركات الجهاد السياسية، وكتب حولها بحثاً مفاده أن للإنسان لذتين، حسية ومعنوية، والحسية هنا تنطبق على ما أعطى الله المسلم في الجنة، فيعطيه الله الحور العين من دون "وطء"، كما أعطاه الخمر من دون ذهاب للعقل.
فأثار هذا المقال حيرة وقلق وغضب بعض الناس، فهناك من فجر نفسه واختصر حياته مستعجلاً متلهفاً لقاءهن، فكيف يتم التنصل الآن من الوعد، على لسان الباحث الاستراتيجي، وإخلاف العهد. بدا المتناظران في البداية خجلين مترددين في الدخول في صلب الموضوع، فأخذا يؤخرانه، العالم الشرعي طلب ترك هذه الموضوعات للعلماء المختصين وأكد ضرورة الإيمان الغيبي للمؤمن والتسليم بما جاء في القرآن، بينما لف الأستاذ الاستراتيجي ودار حول الحديث عن الشأن السوري إلا أن الجمهور الحاضر استعجلهما لترك اللف والدوران وحسم المسألة: هل هناك وطء في الجنة أم لا؟وعلى طريقة النكتة السودانية التي تقول إن موجز نشرة أخبار التلفزيون السوداني هي جملة "دب خلاف" لأن الخلافات السودانية لا تنتهي فإن موجز الأمسية هو "دب خلاف"، ودون أن يكون هناك داعٍ لنقل تفاصيله، انتهى الجمهور الذي لم يسعده كلام الباحث الاستراتيجي بطلب أن يدع الباحث الاستراتيجي الحديث فيما لا يعنيه ويتركه للمختصين الشرعيين الذين طمأنوهم بأن الوطء موجود في الجنة.هذه واحدة من تجليات الفراغ الفكري في مجتمع تتكالب عليه الاستهلاكية وتنعدم فيه الإنتاجية المعرفية وحرية الرأي والتفكير، لهذا تقلصت الجنة من وصف عظيم بهيج وصفها الله به في الحديث القدسي بأنها "ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر" حتى أصبحت "وطء الحور العين أم لمسهن"، فلا تعود تمثل في وعي المؤمن بأنها السلام كله والفوز والنجاة من النار.بعد قراءتي خبر الأمسية في عكاظ كانت قناة الجغرافيا الوطنية تعرض فيلماً تسجيلياً عن طاقم علمي يمسك بأنثى سمكة قرش كبيرة جداً، ويخدرها لوقت قصير بما يسمح له بزرع شريحة إلكترونية في جسدها تسمح له بملاحقتها ورصد رحلة أسماك القرش في المحيطات، وبعد أن أخذوا عينة من دمها لتحليلها أعادوها إلى البحر بعناية بالغة، وكأنها وليد أفراد الطاقم، ثم أخذوا يتقافزون مبتهجين بهذا الفتح العلمي الكبير، ولم يدب بينهم خلاف، أما نحن فموجز المعرفة لدينا "دب خلاف".