قبل أسبوع، نشر الكاتب الأميركي الشهير توماس فريدمان مقالاً في "نيويورك تايمز"، تحت عنوان "حين تطير الأفيال"، معلقاً على التطورات التي تشهدها مصر بعد اندلاع ثورة 25 يناير.

Ad

يعرف فريدمان هذه المنطقة جيداً، وتعرف هذه المنطقة أنه لا يستطيع، في أحيان عديدة، أن يخفي انحيازه لإسرائيل ومشروعها، ولا احتقاره المبطن لثقافة الدكتاتورية والاستبداد في العالم العربي، وغياب نزعة الحداثة فيه، وجنوحه إلى التنافض عوضاً عن الاندماج وتبادل المنافع مع قطب العولمة الأكبر... الغرب، وما يمثله من آليات وقيم.

ذكر فريدمان في مقاله أنه زار حي شبرا الخيمة الشعبي شمال العاصمة، وتفقد إحدى الدوائر الانتخابية، واستمع من الناخبين إلى الأسباب التي جعلتهم يصوتون للإسلاميين بكثافة، لكنه ختم مقاله بعبارة يبدو لي أنها صادقة وشديدة التعبير والإيحاء؛ لقد قال: "في ما يخص الأحداث التي تقع في مصر منذ اندلاع الثورة حتى الآن، فإنها تشبه حالة طيران الأفيال، ولذلك، فليس على أي محلل مهما كان حاذقاً أو ماهراً، إلا أن يرصد ما يجري، ويدون ملاحظات".

سيكون من الصعب جداً العثور على أي تحليل قبل 25 يناير الماضي يتوقع ما جرى، أو يستشرفه، أو يقاربه، بأي صورة من الصور، دون أن يعني ذلك نفي وجود مئات، بل آلاف، التحليلات والمقالات والمقاربات التي حضت على الثورة، أو آمنت بحتمية اندلاعها يوماً ما.

بل إن ما جرى عقب إطاحة الرئيس السابق حسني مبارك نفسه، لم يكن يتوقعه أحد، بدءاً من الصورة التي بات عليها الجيش لدى أغلبية الثوار، والصورة التي بات عليها الثوار لدى قطاع عريض من الجمهور، ومروراً بالتعثر الغريب في عملية نقل السلطة، وصولاً إلى الفوز الكاسح للتيارات الإسلامية في الانتخابات، رغم تبنيها شعارات وبرامج وآليات عمل تكاد تكون متناقضة تماماً مع مطالب الثورة الرئيسة.

لذلك، يجب أن تُحترم ملاحظة فريدمان على أية حال، خصوصاً في ما يتعلق بالسؤال المحوري الذي لا يكف المصريون عن طرحه ليلاً ونهاراً: "ماذا سيجري يوم 25 يناير؟".

تنشغل مصر الآن بالسؤال عمّا سيجري يوم 25 يناير المقبل، ولا يمتلك أحد إجابة وافية، رغم وجود تيار محدود يتحدث عن "ثورة ثانية تصحح مسار الثورة الأولى وتستعيده"، وتيار أكثر محدودية يتحدث عن "مليونية عادية، تعقبها اضطرابات بسيطة، ثم يتم احتواؤها والعودة إلى مسار الانتخابات".

والواقع أن كلا التوقعين يمكن إدراجه في خانة التمني بأكثر مما يمكن التعاطي معه باعتباره نتيجة تحليل؛ ذلك أن هناك الكثير من المصريين، في مختلف الطبقات والشرائح ومن مختلف المشارب، يريدون استعادة الاستقرار والهدوء، والمضي قدماً في العملية السياسية، عبر انتخابات مجلس الشورى المنتظرة، ثم اختيار أعضاء اللجنة التأسيسية، فصياغة الدستور والاستفتاء عليه، وانتخاب رئيس بحلول 30 يونيو المقبل، وفق ما أعلنه المجلس العسكري نهاية السنة الماضية، وأكد الالتزام به.

كما أن نشطاء الثورة، وشهداءها، ومصابيها، والمنتمين إليها، والمتعاطفين معها، يشعرون بأن ثورتهم خطفت، وأنها لم تحقق أي شيء من مطالبها الرئيسة، وأن الأوضاع في مصر تسير نحو إعادة إنتاج النظام السابق، بحيث يحكم العسكر البلاد من خلال رئيس منهم، أو يمثلهم، أو ينصاع لهم، وحزب حاكم، سيكون "الإخوان المسلمين" بدلاً من "الحزب الوطني" المنحل.

لكن الإجابة الوافية، المبنية على تحليل دقيق للمعطيات الراهنة، لن تكون تمنياً، كما أنها لن تكون بالطبع تنجيماً أو قراءة طالع، بل ستكون مجرد استعراض للسيناريوهات المطروحة، وفرص تحقق كل منها، وهي في هذه الحال لا تزيد على ثلاثة سيناريوهات.

السيناريو الأول: تظاهرة كبيرة لا تقلب الأوضاع أو تعطل المسار السياسي. يستند هذا السيناريو إلى القدرة الواسعة لأتباع التيارات الإسلامية من "إخوان مسلمين" و"سلفيين" على التنظيم والحشد والأداء الفعال المنضبط. وهؤلاء لديهم مصلحة كبيرة في الحفاظ على المسار السياسي عبر خريطة طريق نقل السلطة، خصوصاً أنهم سيتذوقون طعمها الحلو بعد عقود من المرار، عندما يجتمع مجلس الشعب المنتخب غداً، مكرساً هيمنتهم على السلطة التشريعية. كما يتعزز عبر التزام الجيش وعزمه الواضح على التصدي لأي أعمال استهداف، كتلك التي جرت قبل نحو عام وهزمت جهاز الشرطة وأذلته. وأخيراً سيجد ذرائع كبيرة في انحياز قطاع من الجمهور ليس قليلا لفكرة الاستقرار، وعدم التعاطف الواسع مع الدعوات إلى "الثورة الثانية"، كما كان الحال في "الثورة الأولى"، فضلاً عن اهتزاز الثقة في بعض رموز الثورة، بفعل الإعلام المنحاز وهجمات "الفلول" وبعض أخطاء الثوار.

السيناريو الثاني: ثورة ثانية

يجد هذا السيناريو فرصه في حال الغضب العارم التي تعتري الثوار والمتعاطفين معهم، والإحساس المرير بسرقة الثورة؛ مرة من قبل "العسكر الذين أجهضوها وأخمدوا جذوتها"، ومرة أخرى من قبل "الإسلاميين الذين سطوا عليها وقطفوا ثمارها"، بينما دماء الشهداء لم تجف بعد، وأعدادهم في ازدياد.

يتعزز هذا السيناريو لأن شعارات الثورة الحقيقية "عيش... حرية... كرامة إنسانية... عدالة اجتماعية" لم تتحقق، ويبدو أنها لم تأخذ طريقها للتحقق، ولأن شباب الثورة مازالوا قادرين على الحشد والتعبئة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ولأن قطاعاً في الجمهور مازال ناقماً بسبب أداء المجلس العسكري السيئ في المرحلة الانتقالية، وبسبب محاولات إعادة إنتاج النظام القديم، وعدم تطهير القضاء والإعلام وجهاز الدولة. وهناك أيضاً سبب آخر يرجح خيار "الثورة الثانية" وهو إحساس بعض أتباع الأجنحة الراديكالية في الثورة بأن "خطف الإسلاميين لها سينتج أوضاعاً أسوأ من تلك التي أسقطتها ثورة يناير"، كما أن هؤلاء يؤمنون بضرورة "إسقاط مؤسسات الدولة، ومنها الجيش، لبناء الدولة العادلة الجديدة"، والأهم من ذلك أنهم فاعلون ومنتشرون وقادرون دائماً على تفجير الأوضاع عبر استعدادهم الدائم للاحتكاك بالسلطة وللموت في سبيل أهدافهم.

السيناريو الثالث: فوضى وأعمال عنف

يستند هذا السيناريو إلى القابلية الكبيرة للانكشاف التي تعانيها الدولة المصرية راهناً، وزيادة عدد الأطراف العالمية والإقليمية التي تسعى إلى اتخاذ نقاط ارتكاز وتأثير فيها، وإلى عجز أي من الأطراف الفاعلة الثلاثة (أجنحة الثورة الراديكالية، والجيش، والإسلاميون) عن تحقيق أهدافه وإنفاذ أجندته بالكامل في هذا اليوم. ويتعزز هذا السيناريو بسرعة انتقال عدوى "العنف"، و"عدم قدرة السيف على قهر الدم"، وعزم بعض الثوار على استعادة المبادرة الثورية "مهما كانت الأثمان".

تبقى جميع الاحتمالات مفتوحة على أي حال، وعلينا أن نستجيب لنصيحة فريدمان و"ندون الملاحظات"، لكن يمكننا أن نأمل أيضاً أن يقود 25 يناير المقبل إلى إعادة ترتيب الأوضاع في مصر من دون عنف أو فوضى، وإلى استعادة الثورة مسارها من دون دماء، وإلى الضغط على أصحاب السلطة الجديدة وتذكيرهم بأن مصر لن تحكم مرة أخرى بالاستبداد أو الطغيان.

* كاتب مصري