مر العيد حزيناً دامياً، وسالت دماء غزيرة لضحايا أبرياء، وتفجيرات انتحارية تودي بحياة مصلين في بيوت الله، وقتلى وشهداء تساقطوا على أيدي أنظمة قمعية تأبى إلا أن تحكم أو تبيد شعبها، ومع تقديرنا لخطاب سمو أمير قطر المعبر عن تطلعات مجتمعاتنا إلى الحرية والعدالة والكرامة فإن الآمال الكبيرة على الربيع العربي في تآكل، فنزعات الانتقام والإقصاء متصاعدة والأوضاع الاقتصادية متردية ومعدلات البطالة متفاقمة.

Ad

في مقالاتي خلال الشهر الفضيل عرضت آراء المفكرين في تشخيص أصل الداء وعلة العلل في الإخفاق العربي المزمن، وطرحت تساؤلات قلقة: لماذا يقتل أمة الإسلام بعضها بعضاً؟ ولماذا انتهت مشاريع النهضة إلى إنتاج أشخاص من نوع بن لادن والظواهري وصدام والقذافي؟ وكيف لم نشعر بالعار من استمرار حكم القذافي المهرج كما يقول عبدالمنعم سعيد؟! ولماذا صمت فقهاء خير أمة أخرجت للناس؟ وكيف تنسجم الخيرية مع تردي الأوضاع؟! وعرضت رأي المفكر البحريني محمد جابر الأنصاري الذي شخص معضلة التخلف العربي في فشل العرب التاريخي في إدارة الصراع السياسي "سلمياً" منذ الملك العضوض إلى يومنا!

وفي هذه المقالة أعرض رأي المفكر السعودي إبراهيم البليهي الذي يرى أن معضلتنا هي معضلة "ثقافية" بالدرجة الأولى، وحتى الخلل السياسي ما هو إلا نتاج الخلل الثقافي، فالتخلف الثقافي هو الأصل، وهو الذي يغذي الأبعاد الأخرى للتخلف، والاستبداد السياسي هو ناتج من نواتجه، ولولا أن الثقافة العربية تستسيغ هذا الخلل السياسي لما رضيت به قروناً مديدة، ولما منحته المشروعية وروضت الناس له، لذا علينا القيام بحفريات في ذاتنا الثقافية لنعرف كيف بدأ الخلل، وكيف تكوّن، وكيف استمر، فالثقافة مثل النهر ونقطة البداية تحدد اتجاهه.

وقد تأسست الثقافة العربية في الجاهلية على الصراع والغلبة واستئصال الآخر القريب قبل البعيد؛ لأن البيئة الصحراوية جعلت الحياة في الحس العربي لا تتسع إلا لفئة واحدة! ولم يعرف العرب معنى الأمة إلا بالإسلام الذي أخرجهم من الصحراء إلى مواقع الخصب والنماء، لكن منطق القوة والصراع استمر واشتد بعد الخلافة الراشدة، ونكص العرب على مبادئ الدين ومنحت الثقافة مشروعية دائمة لهذا النكوص، وأوجبت الطاعة لمن غلب!

فأصبحت السيادة لمنطق القوة والتغلب والاستبداد حتى قال قائلهم "إنما العاجز من لا يستبد"، وتباهى بعضهم "لنا الصدر دون العالمين أوالقبر" و"إذا مت ظمآناً فلا نزل القطر"، إننا أسرى "ثقافة التغلب" التي صاغت عقول المتعلمين عامة والمبدعين خاصة، فلا عجب إن وجدنا كثيراً منهم يتقاطرون على مواسم صدام وموائد القذافي، ولم يكن غربياً أن يتطوع آلاف المحامين والقانونيين العرب للدفاع عن صدام، فهم مأسورون برؤية ثقافة مغلقة تنتظر قائداً عادلاً مستبداً يحقق لها كل شيء!

إن التكوين الثقافي هو العائق الأكبر للتنمية وهو الحصن المنيع للتخلف، وعلينا أن نتعرف على ثقافتنا التي تتحكم بنا، وأن نحلل مكوناتها لأن آفاتنا من داخلنا، أما محاولة تحميل الآخرين وزر أوضاعنا فهروب من الحقيقة وتضليل للناس واستدامة للأوضاع المتردية.

يرصد البليهي جملة من الآفات الثقافية المعوقة للنهوض، منها "طمس الروح الفردية، والقيمة المحورية للسلطة، وكراهية نقد الذات، والنفور من الاعتراف بالخطأ والاعتذار، واستسهال لوم الآخر، والإيمان بأوهام التآمر العالمي، وأوهام الماضي المجيد، وتقديس السلف، وادعاء تملك الحقيقة، والتعصب المذهبي، وعدم قبول الآخر، وأوهام أعلوية الرجل على المرأة، وأوهام الكمال والامتياز الثقافي".

وفي هذه المقالة نشرح: ما المقصود من طمس النزعة أو الروح الفردية؟ لعل الامتياز الأعظم للحضارة المعاصرة اعترافها بالإنسان الفرد لذاته، لا لانتمائه القبلي أو السياسي أو القومي أو الديني، لقد عاش الإنسان الفرد على مر العصور والحضارات القديمة كمجرد خلية في جسم أو كترس في آلة لا قيمة له في ذاته حتى جاءت الحضارة المعاصرة فاعترفت بفرديته.

هذا الاعتراف بالفردية هو مصدر التغير الحقيقي المدهش الذي فجر طاقات الإنسان، وصنع المعجزات والمنجزات التي تغمر العالم، وتسهل حياة الناس، كانت تلك الطاقات معطلة آلاف السنين إلى أن اكتشف الإنسان قابلياته العظيمة، فتحرر من الأوهام المعوقة، وتغيرت طريقة تفكيره، وتطورت رؤاه وتوسعت مداركه.

لقد كان إعلاء الفردية في الحضارة الحديثة هو مفتاح الخروج من الكهف الثقافي والانطلاق إلى آفاق الابتكار والاكتشاف والإنجاز، وإن الاعتراف بالفردية هو الأساس في كل التغيرات النوعية في القوانين والوظائف وشبكة العلاقات الاجتماعية، فليس امتياز الحضارة بإنجاز العلوم والفنون والتقنيات فحسب، إنما هذه نتائج الاعتراف بفردية الإنسان، وتوفير الحرية له، وتأنيس السلطة لتكون في خدمته.

ومع أن الإسلام أكد قيمة الإنسان الفرد، وكفل حريته واحترم اختياراته بمقتضى التكريم الإلهي للإنسان، وحمله مسؤولية ذاته وأفعاله واختياراته لا بما يراه الآخرون، فكل آتي الرحمن فرداً، و"وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى"، كما حذر رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام من الانقياد مع عقلية القطيع "لا يكن أحدكم إمّعة يقول إن أحسن الناس أحسنت وإن أساؤوا أسأت"، كما قال "إن من أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر".

إلا أن الثقافة العربية برمجت الإنسان العربي على عدم الاستقلالية في التفكير ليكون أسيراً للسائد والمألوف، ومنقاداً لتفكير الآخرين، فأصبح مسلوباً من الروح الفردية تسيره الأهواء وتتلاعب به الاتجاهات، ويمكن التضحية به من أجل ما يسمى بـ"الكل" وهو حفنة من المتسلطين!

إن طمس النزعة الفردية في الثقافة العربية الموروثة والسائدة هو أحد العوامل الرئيسة التي فاقمت التخلف العربي، وهو مصدر الإعاقة الفكرية المستمرة، وهو الأساس في عدم تقبل الرأي الآخر والفكر الناقد، ويعجب الجمهور كثيراً بمن يدغدغ مشاعرهم الطفولية بالافتخار بالواقع المتردي وبالشعارات الفارغة والهالات الكاذبة، لكنهم يضيقون ويصدون عمن يبصرهم بمواطن الخلل والإعاقة، وقد يتهمونهم بالعمالة والخيانة!

ومرة أخرى يجب التفريق بين الإسلام في ذاته وما يمارسه الناس باسمه، فتعاليم الإسلام تفرض احترام الإنسان وقيمته لكن لم يتح لها خلال التاريخ أن تتوطد، إذ أصبحت فردية الإنسان العربي بعد الخلافة الراشدة مطموسة، فغابت تعاليم الإسلام وبرزت التقاليد العربية وارتبطت قيمة الإنسان بانتمائه السياسي أو المذهبي أو الإقليمي أو العشائري، وأصبح الإنسان العادي الفرد لا قيمة له إلا بمقدار قربه من السلطة أو انتمائه إلى هذا المذهب أو ذاك!

استمرت قيم الصحراء غالبة لأن العرب لم يتشربوا قيم الإسلام تشرباً قائماً على القناعة بها، بدليل امتناع العرب عن قبول الإسلام طويلاً حتى إذا انتصر دخلوا فيه أفواجا، إذ كان يسلم زعيم القبيلة فتسلم معه قبيلته كلها! وكان هذا الإقبال الجماعي قرب وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، فلم يتشرب العرب قيم السلام بدليل أنه عندما توفي الرسول ارتد أكثر العرب.

إن وقائع عام الوفود تؤكد أن محاربة الإسلام حينما كان ناشئاً ثم الانضمام إليه حينما أصبح قوياً، كان قراراً فردياً من زعماء القبائل، أما جموع الناس فكانوا يسيرون خلفهم خيراً أو شراً كما قال شاعرهم:

وما أنا إلا من غزية إن غوت ... غويت وإن ترشد غزية أرشد وهذه الحقيقة التاريخية تؤكد أن الإنسان العربي لا فردية له إنما هو جزء من القطيع العشائري، كما تؤكد أيضاً أن قرارات الزعيم القبلي مرهونة بمصالحه، فهو في الأغلب لا يستجيب للحق أو يرفضه اقتناعاً إنما يحارب أو يسالم رغبة أو رهبة! يؤكده ذاك الارتداد الجماعي بعد وفاة الرسول- صلى الله عليه وسلم- وقولهم: كذاب اليمامة خير من صادق مضر!

ويستطرد البليهي فيقول: إنه على امتداد التاريخ الإسلامي كان الأقدر على شراء هؤلاء الزعماء يستطيع أن يضم إلى صفه قبائل بأكملها، حتى قيل عن أحدهم: إنه إذا غضب، غضب له مئة ألف فارس لا يسألونه لماذا غضب! ويختم بقوله: إن الإفلات من قبضة هذه الآفة لا يتحقق بنهضة فكرية تملأ أذهان الناس بالوعي وبالإحساس بالمسؤولية، وتعودهم على الفحص والمراجعة والتحليل وتربطهم بالحق والإيثار والصدق والشفافية، وتعيد النظر في منظومة القيم على أساس من احترام فردية الإنسان والاعتراف بحقه في التفكير الحر.

* كاتب قطري