للمرة الأولى منذ إطاحة حسني مبارك في 11 فبراير الماضي من الحكم، ونجاح المرحلة الأولى لثورة 25 يناير نجاحاً مبهراً، تبدو تلك الثورة في مفترق طرق، ويهيمن الغموض على المسار الذي يمكن أن تتخذه، ويتم طرح بدائل عديدة لمستقبلها ومستقبل الدولة المصرية معها؛ وهي بدائل لا تستبعد أبداً السيناريوهات السوداء.
لقد بدأت السيناريوهات السوداء تطل برأسها بالفعل عندما ظهر أن سلطة المجلس العسكري الحاكمة في الفترة الانتقالية لا تهدف إلى تحقيق أهداف الثورة الأساسية؛ وعلى رأسها هدم ما تبقى من النظام السابق، وتأمين محاكمات عادلة منصفة وناجزة لأركانه من المتهمين بجرائم مختلفة، ووضع خريطة طريق واضحة للمرحلة الانتقالية، تضمن لها تحقيق أهدافها بسرعة وسلاسة ونزاهة وحياد.وتعززت تلك السيناريوهات عندما ظهر أن الحكومة التي عوّل الثوار على رئيسها الدكتور عصام شرف، تبدو متخبطة ومرتبكة وفاقدة للرؤية والاتجاه، بل اتضح أيضاً أنها تلتزم فقط بتعليمات المجلس العسكري الذي عينها، رغم تمتعها في بداية تشكيلها بدعم واضح من ميدان التحرير.ورغم أداء المجلس العسكري المثير للجدل والباعث على الاحتقان، خصوصاً في ملف استعادة الأمن وتطهير جهاز الشرطة وإعادة هيكلته، ورغم سلوك الحكومة المتخبط المرتبك وإنجازها الأقل كثيراً من التوقعات والتحديات، فإن عاملاً ثالثاً تسبب في إلحاق أكبر الأضرار بمسار الثورة وقدرتها على تحقيق أهدافها.فقد حدث شيء مماثل لما جرى في "غزوة أحد" بالضبط؛ حينما أغرى النجاح المبدئي للثورة، معظم القوى التي شاركت فيها بالبحث عن الغنائم وتحقيق المصالح الخاصة لكل فريق أو حزب أو تيار، بل إن الأمر امتد أيضاً إلى عدد من الرموز الفردية التي كان لها دور في إشعال الثورة ونجاح مرحلتها الأولى، حيث بات بعض هذه الرموز أكثر اهتماماً بحصد مكاسب شخصية وسياسية ضيقة على حساب الهدف الوطني العام.ولعل الانقسام البادي بين قوى الإسلاميين من جهة والقوى العلمانية والليبرالية واليسارية من جهة أخرى، والمعركة الطاحنة التي دارت بين الجانبين على مدى الشهور الأربعة الماضية، خير دليل على انقسام التيار الرئيس الذي مثل الدافع الأهم لنجاح الثورة في مرحلتها الأولى.لم يكن الإسلاميون في طليعة القوى التي تنادت إلى ثورة 25 يناير في أول أيام اندلاعها، ولا ينفي ذلك بالطبع أن قطاعاً بينهم ناوأ نظام حسني مبارك مناوءة شديدة، ودفع أثماناً لهذه المناوءة التي اتخذت طابعاً سياسياً تراكمياً في مثل حالة "الإخوان المسلمين"، أو حتى طابعاً عنفياً "جهادياً" في مثل حالة بعض جماعات الإسلام السياسي الأخرى؛ مثل "الجماعة الإسلامية" وتنظيم "الجهاد".لكن ذلك بدوره لا ينفي أن تلك الجماعات تعاملت مع الثورة بانتهازية واضحة، وعلى رأسها بالطبع بعض الجماعات السلفية، التي كانت أحد عناصر التوطيد للنظام السابق وجهازه الأمني، والتي عارضت الخروج الأول في 25 يناير، ودعت على مدى أيام الثورة الأولى إلى عودة المتظاهرين إلى بيوتهم و"وجوب طاعة الحاكم وعدم الخروج عليه".ورغم هذا السجل غير المشرف لمواقف بعض تلك التيارات في أيام الثورة الأولى؛ فإنها لعبت دوراً فعالاً لاحقاً لإنجاح الثورة، وأظهرت قدراً ملحوظاً من الصمود والتفاني، قبل أن تنقلب مباشرة لتجني الغنائم، وتستخدم خلطاً مسيئاً للسياسة بالدين، وتؤثر في طبيعة التصويت الذي جرى في استفتاء 19 مارس الماضي على التعديلات الدستورية، وهي العملية التي أطلق عليها بعض الإسلاميين لقب "غزوة الصناديق".وعلى الجانب الآخر، أظهرت بعض القوى الليبرالية واليسارية قدراً من الشطط خلال تفاعلها السياسي، ومال بعض شباب الثورة إلى تصعيد غير مبرر في الشارع، محاولين حرف التظاهرات والوقفات الاحتجاجية عن سلميتها، وساهم الجانبان في إضعاف تيار الدولة المدنية بتقاعسهما عن بناء قواعد شعبية جماهيرية في أعماق البلاد، للتعويل عليها في الانتخابات البرلمانية المقررة خلال أسابيع، بدلاً من الصراخ حول "الدستور أولاً"، أو "القيم فوق الدستورية"، أو التصريح لوسائل الإعلام والوقوف في الساحات. وعلى الرغم من خطورة كل التصرفات السابقة على مسار الثورة وقدرتها على إدراك غاياتها، فإن فرص استعادة الزخم الجماهيري، وبناء توافق ما بين النخب السياسية على طبيعة التعاطي مع الانتخابات البرلمانية المقبلة، كانت تعطي بعض الأمل في تجاوز المحن الراهنة وحلحلة الأوضاع للخروج من عنق الزجاجة الممثل بالفترة الانتقالية الشائكة والصعبة.لكن الأوضاع اتخذت مساراً مغايراً يهدد الثورة بعواقب لم تكن في الحسبان أمس الأول الجمعة، عندما اقتحم شبان مقر السفارة الإسرائيلية في القاهرة، وأنزلوا العلم الإسرائيلي من فوقها للمرة الثانية خلال أسابيع قليلة، وسلبوا وثائق من أرشيفها الخاص وأطاحوا بها في الهواء، بعدما حاصروا مقر وزارة الداخلية، وحاولوا اقتحام مبنى مديرية الأمن في محافظة الجيزة، فضلاً عن مهاجمة السفارة السعودية.كل تلك الانفلاتات الخطيرة غير المسؤولة جرت في ليلة واحدة، وفي أعقاب تظاهرة بميدان التحرير بدت في مجملها ناجحة، واتخذت اسم "تصحيح المسار"، غير متأثرة بعدم مشاركة الإسلاميين وبعض حلفائهم.يبدو أن قوى مندسة شريرة لها مصلحة في تفجير الأوضاع في مصر وسحبها نحو الفوضى والعنف وإجهاض الثورة، تحالفت مع الشطط غير المبرر من جانب بعض المتظاهرين غير الناضجين، وتغذت بتراخي الحكم وارتباكه وتباطؤه في الإصلاح، واستندت إلى انقسام قوى الثورة الرئيسة الحية المنظمة تنظيماً جيداً، واستفادت من معالجات سياسية وإعلامية انتهازية ضيقة الأفق، واستطاعت أن تسحب الثورة والدولة المصرية إلى نفق مظلم خطير.فقد بات السؤال المحوري ليلة السبت الفائتة لا يتعلق بقدرة الثورة على النجاح والاستمرار، بقدر ما بات يتصل بما إذا كانت الدولة المصرية قائمة أم فاشلة.الأحداث التي جرت بحق سفارة إسرائيل ووزارة الداخلية قبل يومين في القاهرة طرحت تساؤلات اتخذت طابعاً دولياً عن قدرة الدولة المصرية على الوفاء بأحد أهم واجباتها على الإطلاق؛ وهو حماية البعثات الدبلوماسية الأجنبية.والواقع أن التحليل البسيط للخرق الذي حصل لأمن السفارة الإسرائيلية لا يطرح سوى احتمالين؛ أحدهما أن تكون السلطات الأمنية فضلت "ضبط النفس" أمام الخرق والتجاوز الخطير الذي جرى، والآخر أن تكون تلك السلطات عاجزة أو منقسمة إزاء ما يجب أن تواجه به تلك الخروقات الجسيمة.لا أحد في مصر يحب أن يرى علما إسرائيليا يرفرف في سماء القاهرة في تلك الأثناء، وكل القوى الوطنية مجمعة على ضرورة وقف صادرات الغاز، وإعادة صياغة معاهدة السلام على أسس أكثر إنصافا وعدلا وتوازنا، ومعاقبة إسرائيل على حادث قتل رجال الأمن المصريين على الحدود في سيناء عبر طرد سفيرها كخطوة مبدئية في هذا الإطار.لكن هذه الإجراءات يجب أن تتم وفق الأسس القانونية والدبلوماسية المرعية، ويجدر أن تقوم بها دولة مستقرة راسخة الأركان، وعبر حكومة منتخبة انتخاباً حراً، وتمتلك تفويضاً شعبياً يمكنها من اتخاذ قرارات استراتيجية حيوية، وتستند إلى قوة صلبة وناعمة تعزز قدرتها على الدفاع عن مصالحها في حال تطورت الأمور أو اتخذت مساراً تصادمياً.تبدو ثورة مصر اليوم، أكثر من أي وقت مضى، في مفترق طرق، وهي طرق لا تستبعد أبداً المآلات السوداء، وهو أمر قد تكون له انعكاسات خطيرة وغير محتملة، سواء على الدولة المصرية أو منطقة الشرق الأوسط كلها.* كاتب مصري
مقالات - زوايا ورؤى
ثورة مصر في مفترق طرق
11-09-2011