صراع التيارات الدينية والفكرية مع الآداب والفنون كان ولايزال صراعاً على الحرية أولاً وأخيراً.
فالفكر الديني أو العقائد السياسية كانت على امتداد التاريخ وتنوع المجتمعات تبني لنفسها منظومة مُحكمة من الأسس التي تهدف في النهاية إلى تطويع وتشكيل التوجهات الذهنية والنفسية للمجتمعات البشرية. ومع مرور الزمن يتحول الفكر الديني أو العقيدة الاقتصادية أو السياسية إلى ثوابت حازمة صارمة تكتسح كل ما يخالفها أو يخرج عن النسق الذي اختطته لتسيير المجتمع. وأول عقبة تواجه هذا الحزم وتلك الصرامة هي عقبة الفنون والآداب، لسبب بسيط وهو كون الفن والأدب حليفين للحرية ومعبرين عن الإرادة والفطرة. الكثير من النماذج الفنية والأدبية فشلت فشلاً ذريعاً في حيازة قصب السبق في الأصالة والإبداع، بسبب خضوعها للتدجين والتطويع بما يتناسب وتوجهات العقيدة الدينية أو السياسية أو الفكرية، فجاءت على صورة من الفجاجة والركاكة والصنعة المفتعلة، فضلا عن محاولة التنظير لهذا اللون من الأدب والفن المصطنع، فراج في النقد الأدبي ما يُسمى بأدب الالتزام، وهي تسمية متناقضة وملتبسة كانت من مخلفات الفكر الاشتراكي الماركسي. ويحضرني في هذا المقام شخصية (دكتور زيفاجو) الشاعر والعاشق الرقيق الذي عانى الكثير من الاضطهاد لأنه تغنى بالحب والربيع وتفتق الزهر، ولم يلتزم شعره بتمجيد الثورة الشيوعية! إن الصراع بين الفكر المؤدلج والفنون والآداب هو صراع على الحرية بالدرجة الأولى، ففي الوقت الذي يكون فيه الفكر أو التوجّه مقنناً ومحكوماً بمنظومة من الأسس والقواعد، تكون الآداب والفنون حليفة للحرية المطلقة، ومعبرة عن الفطرة الإنسانية الحقة بنقائها وظلمتها، بطهارتها ودنسها، وبكل ما في جوهرها الإنساني من طموحات الكمال والعنفوان، وهشاشة الضعف والفاقة والعطب. لذلك غالباً ما تسقط الأيديولوجيات وتغرب العقائد الفكرية وتتحوّر المذاهب الدينية، بينما تظل النماذج الأصيلة للإبداع الفني والأدبي خالدة على مرّ الحقب والدهور! ولو تساءلنا لماذا بقيت الإلياذة والأوديسة وأعمدة الهياكل الرومانية وتأملات عمر الخيام وموسيقى "البلوز" وباليه بحيرة البجع ولوحة عبّاد الشمس وشطحات المتنبي... إلخ، لما أعجزنا الجواب: إنها باقية لأنها تمثل روح الإنسانية وجوهرها، وتوقها للحرية والتحقّق. نسوق كل هذه المقدمات تعقيباً على ما يدور من جدل ومخاوف حول صعود تيارات الإسلام السياسي بُعيد الثورات العربية، ومدى ما تشكله هذه الجماعات من عوامل ضغط وتحجيم للفنون والآداب. وقد كان أول الغيث التصريحات المثيرة التي أطلقها القيادي السلفي في مصر عبدالمنعم الشحات بحق نجيب محفوظ، وعزفه على أوتار المحرمات التي "اجترحها!" أديب نوبل من خلال أدبه ورواياته. ولا أدري لماذا يتم تضخيم هذا اللون من غثاء القول، بعد أن رحل الأديب الكبير، وبعد أن قرّت أدبياته في الوجدان العربي والعالمي؟! اللهم إلا الترويج لقائله وإعلاء أسهمه في مزاد السوق السياسي، وخاصة أن أمثال هذه التصريحات و(التهويشات) باتت مستهلكة وقديمة ومعروفة المقاصد. وإن كان هناك من سبيل للمحافظة على توازن المجتمع وتكريس إنسانيته وحريته، فلن يكون ذلك إلا من خلال الإيمان بقيمة الآداب والفنون وبثّ أثرها في المناهج الدراسية والتربية المنزلية، ووسائل الإعلام والبرامج التدريبية وورش العمل الإبداعي. ويبدو أننا كمجتمعات بحاجة إلى يقظة في الوجدان والروح حتى نترجم هذا الإيمان إلى أفعال ومبادرات. إن مشروعاً مهماً مثل مشروع "بكرة" المكرّس للنهوض بإبداعات الشباب العربي في مجال الفنون والآداب خاصة -وقد كتبنا عنه في مقال سابق-، مازال بأمس الحاجة إلى الدعم المادي والمعنوي. وكم هو مؤسف أن البث الإعلاني عن المشروع في محطات التلفزة لم يدم غير يومين أو ثلاثة، رغم ما بُذل من جهد فني وتقني للترويج لأهدافه! وعليه أعتقد أن الخوف من انحسار حرية الإبداع في الفنون والآداب هو خوف من صنع أنفسنا، ونتيجة طبيعية للامبالاة التي ترين على حياتنا ومعاشنا. ويقيني أن مفاتيح الحرية الحقة ستظل دائماً في جيوبنا.
توابل
أسرار طيور البجع والمتنبي والبلوز
11-01-2012