المجاعة والأمل في منطقة القرن الإفريقي

نشر في 03-08-2011
آخر تحديث 03-08-2011 | 00:01
لقد بدأت شراكة إقليمية جديدة في الترسخ الآن، بداية بالمجتمعات المتضررة وحكوماتها الوطنية. فضلاً عن ذلك فإن العديد من البلدان في شبه الجزيرة العربية، عبر البحر الأحمر مباشرة وفي مواجهة منطقة القرن الإفريقي، تظهر أيضاً استعداداً مشجعاً لاستغلال عائداتها من النفط في دعم جهود الإغاثة والطوارئ ومشاريع التنمية الطويلة الأجل.
 بروجيكت سنديكيت مرة أخرى يخيم شبح المجاعة على القرن الإفريقي، فالآن يكافح أكثر من عشرة ملايين من البشر من أجل البقاء، وأغلبهم ينتمون إلى مجتمعات رعوية في المناطق القاحلة من الصومال وإثيوبيا وشمال كينيا، وكل يوم يجلب معه أنباءً مؤسفة عن المزيد من الوفيات وتدفق أعداد هائلة من البشر الذين يتضورون جوعاً على معسكرات اللاجئين في كينيا، عبر الحدود مع الصومال.

إن السبب المباشر وراء هذه الكارثة واضح: فقد توقفت الأمطار لعامين كاملين عن الهطول على المناطق الجافة في شرق إفريقيا. وهناك بعض الأماكن حيث تزداد المياه شحاً عاماً بعد عام، حتى أصبح إنتاج المحاصيل هامشياً في أفضل الأحوال، والملايين من الأسر، التي تتألف من عشرات الملايين من البدو الرحل أو شبه الرحل، ترعى الإبل والأغنام والماعز وغير ذلك من الماشية، تتحرك لمسافات طويلة للوصول إلى المراعي المروية بالأمطار. وعندما تتوقف الأمطار تذبل الأعشاب وتموت الماشية، وتواجه المجتمعات المجاعة.

كان الرعي مهنة مضنية لفترة طويلة في منطقة القرن الإفريقي، ذلك أن مواقع المراعي الداعمة لحياة هؤلاء البشر تتحدد وفقاً لمعدلات سقوط الأمطار غير المستقرة وغير المتوقعة إلى حد كبير، ولا علاقة للأمر بالحدود السياسية. بيد أننا رغم ذلك نعيش في عصر حيث أصبح كل التقديس للحدود السياسية لا لأرواح الرعاة الرحل، ولقد طوقت هذه الحدود، فضلاً عن التجمعات السكانية المتزايدة من المزارعين المستقرين، المجتمعات الرعوية.

إن الحدود السياسية قائمة باعتبارها إرثاً من الحقبة الاستعمارية، وليس كنتيجة لواقع ثقافي أو احتياجات اقتصادية. فالصومال على سبيل المثال لا تؤوي سوى جزء فقط من السكان الرعويين الناطقين باللغة الصومالية، حيث تعيش أعداد ضخمة منهم عبر الحدود في كينيا وإثيوبيا، ونتيجة لهذا ظلت الحروب تمزق الحدود الإثيوبية الصومالية لعقود من الزمان.

ولم يكن بوسع أحد أن يتوقع الجفاف هذا العام على وجه الدقة، ولكن خطر المجاعة كان من الممكن التنبؤ به بسهولة، فقبل عامين فقط، وفي اجتماع مع الرئيس الأميركي باراك أوباما، وصفت الخطر الذي تتعرض له الأراضي الجافة في إفريقيا. وعندما توقفت الأمطار عن الهطول هناك، بدأت الحروب، ولقد أطلعت أوباما على خريطة من كتابي «الثروة المشتركة»، الذي يصف تداخل مناخات الأراضي الجافة مع مناطق النزاع، كما لفتّ نظره إلى أن المنطقة تحتاج بشكل عاجل إلى استراتيجية تطوير، وليس نهجاً عسكريا.

وأجابني أوباما بأن الكونغرس الأميركي لن يدعم جهداً تنموياً كبيراً في الأراضي الجافة، فقال: «قد يحدث ذلك إذا وجدت لي مئة صوت أخرى في الكونغرس».

لا أدرى إن كان أوباما قد وجد الأصوات التي يحتاج إليها، ولكنني أعلم تمام العلم أن الولايات المتحدة لم تحشد جهودها الوطنية للاستجابة بأي قدر من الفعالية لاحتياجات القرن الإفريقي. بل إن الولايات المتحدة تكرس جل جهودها لتوجهات عسكرية باهظة التكاليف وفاشلة في التعامل مع مسألة الأراضي الجافة- سواء في أفغانستان، أو باكستان، أو اليمن، أو الصومال- إلى الحد الذي يجعلها لا تلتفت إلى استراتيجيات التنمية الاقتصادية الطويلة الأجل الرامية إلى علاج الأسباب الجذرية وراء الأزمات الجارية في هذه البلدان.

لقد جاء الجفاف هذا العام في وقت عامر بالاضطرابات السياسية والاقتصادية في كل من الولايات المتحدة وأوروبا، فالنظام السياسي المشوه في أميركا يعطي الأثرياء كل ما يريدون في هيئة تخفيضات ضريبية، في حين يخفض برامج رعاية الفقراء. ولا أحد في واشنطن يبالي بتلبية احتياجات الفقراء في أميركا، ناهيك عن احتياجات فقراء العالم.

وفي أوروبا خلفت الأزمة المالية العالمية في عام 2008 تراثاً من الأزمات السياسية والاقتصادية العميقة في الاقتصادات الأضعف في جنوب أوروبا. ولقد استحوذت هذه الأزمة على اهتمام الاتحاد الأوروبي السياسي بالكامل هذا الصيف، حتى مع ازدياد المجاعة في إفريقيا سوءا.

إن الكارثة الجارية في منطقة القرن الإفريقي لن تحل نفسها، وهناك أربعة عوامل من شأنها أن تجعل الموقف هناك قابلاً للانفجار: فأولا، يبدو الأمر وكأن تغيرات المناخ البعيدة الأمد والناتجة عن أنشطة بشرية تجلب معها المزيد من موجات الجفاف وعدم الاستقرار المناخي. والواقع أن الولايات المتحدة والدول الأوروبية لم تتقاعس عن الاستجابة لمشكلة الجفاف في إفريقيا فحسب؛ بل لعلها ساهمت أيضاً في إحداث هذه المشكلة بما أطلقته إلى الغلاف الجوي من الغازات المسببة للاحتباس الحراري العالمي.

وثانيا، لا تزال معدلات الخصوبة والنمو السكاني في منطقة القرن الإفريقي مرتفعة للغاية، على الرغم من موت أعداد كبيرة من الأطفال في المجاعة، وما لم يتم وضع خطة واسعة النطاق لنشر خدمات تنظيم الأسرة ومنع الحمل الحديثة، فإن التوسع السكاني في منطقة القرن الإفريقي سيصطدم في المستقبل بمناخ أشد قسوة. وثالثا، لا تزال المنطقة تعيش في فقر مدقع، الأمر الذي يجعل الصدمات المعاكسة تدفعها نحو الكارثة، ويتلخص العامل الأخير في السياسة الإقليمية التي تتسم بعدم الاستقرار الشديد، والتي تجعل منطقة القرن الإفريقي عرضة للصراعات والنزاع.

ولكن ما زال هناك أمل واقعي قائم، فقد أثبت برنامج قرية الألفية، الذي أتشرف بالمساعدة في قيادته، أن تمكين المجتمعات الرعوية أمر ممكن من خلال الاستثمارات الموجهة في إدارة الثروة الحيوانية، والرعاية البيطرية، وتنمية الأعمال التجارية، والعيادات الصحية المتنقلة، والمدارس الداخلية، والبنية الأساسية المحلية مثل نقاط توزيع المياه الصالحة للشرب، وتوفير الطاقة الكهربائية خارج ناطق الشبكة، والهواتف الجوالة. إن التكنولوجيا الحديثة، إلى جانب الزعامة المجتمعية القوية، قادرة على فتح المجال أمام التنمية المستدامة الطويلة الأمد.

والآن تخطو دول القرن الإفريقي إلى الأمام لكي تساعد نفسها من خلال هذا التوجه، فقد انضمت ست دول في المنطقة حيث المساحات الشاسعة من الأراضي الجافة- إثيوبيا والصومال وكينيا وأوغندا وجيبوتي وجنوب السودان- إلى مبادرة موحدة للتعامل مع الأراضي الجافة بالاستعانة بأفضل الممارسات والتكنولوجيات الحديثة في دعم الجهود التي تبذلها مجتمعاتها الرعوية للإفلات من براثن الفقر المدقع والمجاعة. والواقع أن العديد من الشركات، مثل «إريكسون»، و»آيرتل»، و»نوفارتيس»، و»سوميتومو كيميكال»، تشارك في هذه الجهود من خلال إتاحة تكنولوجياتها الحديثة للمجتمعات الرعوية الفقيرة.

لقد بدأت شراكة إقليمية جديدة في الترسخ الآن، بداية بالمجتمعات المتضررة وحكوماتها الوطنية. فضلاً عن ذلك فإن العديد من البلدان في شبه الجزيرة العربية، عبر البحر الأحمر مباشرة وفي مواجهة منطقة القرن الإفريقي، تظهر أيضاً استعداداً مشجعاً لاستغلال عائداتها من النفط في دعم جهود الإغاثة والطوارئ ومشاريع التنمية الطويلة الأجل. كما أظهر البنك الإسلامي للتنمية، الذي يمثل 57 بلداً عضواً في منظمة التعاون الإسلامي، قدراً كبيراً من الريادة في هذا السياق. ومن خلال هذه الشراكة الجديدة بين المجتمعات، والحكومات، والشركات، والأوساط الأكاديمية، فإن الأزمة الحالية قد تكون بمنزلة الإشارة إلى بداية التعافي والتنمية في المنطقة.

* جيفري دي. ساكس | Jeffrey Sachs ، أستاذ الاقتصاد ومدير معهد الأرض في جامعة كولومبيا، وهو أيضاً المستشار الخاص للأمين العام للأمم المتحدة لشؤون الأهداف الإنمائية للألفية.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top