كثيرة هي الكتب التي مرت علي، وقليلة هي تلك التي علقت في ذاكرتي، والأقل منها كثيراً هي تلك التي لم تعلق في ذاكرتي فحسب، وإنما تعدتها إلى ثنايا روحي.
من هذه الكتب السحرية التي لاتزال كامنة في نفسي، كتاب "أيام الثلاثاء مع موري"، والذي كتبه ميتش ألبوم. أيام الثلاثاء مع موري، كتاب صغير، لكنه كتاب محتشد يلخص الدرس الأخير الذي يعطيه البروفيسور موري شوارتز لتلميذه القديم ميتش ألبوم، والذي كان قد تعهد لبروفيسوره قبل ستة عشر عاماً بأن يبقى على اتصال به، ولكنه انقطع عنه حتى رآه ذات ليلة في برنامج متلفز، فسافر إليه من ولاية إلى ولاية، ليجده على فراش المرض يقضي أيامه الأخيرة منتظراً لحظة الوداع. كان اللقاء مؤثراً جداً لميتش، لدرجة أنه استمر بزيارة موري أربعة عشر ثلاثاء تلت ذلك اللقاء، حتى لحظة وفاته.كل يوم ثلاثاء من هذه الأيام كان عبارة عن لقاء جديد بين ميتش وموري، رسم من خلالها الكاتب، تطور حالة موري المرضية وهو يصارع مرض التصلب العضلى الجانبي، والذي هو مرض يتطور بشكل بطيء ومؤلم لينتهي بالموت. وتضمنت فصول الكتاب أيضا حوارات ميتش مع موري، والتي كانت حوارات استثنائية بحق، سافرا خلالها عبر شتى الموضوعات المثيرة، فتحدثا عن الحياة والموت طبعاً، وكيف يجب أن يستعد الإنسان دوما للنهاية، وألا تغيب عن ذهنه أبداً، ولكن بشكل إيجابي، حيث كان موري يخبر ميتش عن فكرة توجد عند البوذيين تتطلب تخيل عصفورة على كتف الإنسان، وسؤالها مع بداية كل يوم: "أيتها العصفورة، هل هذا هو اليوم الذي سأموت فيه؟". وتحدثا كذلك عن الحب والزواج والسعادة والفرح والأمل والعطاء والندم والحزن، والعالم الذي نعيش فيه.رجل عجوز، وشاب، وأعظم دروس الحياة. هذه العبارة العميقة وضعها ميتش ألبوم على غلاف كتابه تحت العنوان، وهي عبارة لم تغادر الحقيقة مطلقاً، فلا درس في هذه الحياة أعظم من درس الموت، وأعني درس الموت من منظور موري، الذي هو منظور مختلف جداً كما سيتبين لمن سيقرؤون الكتاب، حيث عبَّر عنه بعبارة شهيرة له قال فيها: تعلّم كيف تحيا وستعرف كيف تموت، تعلّم كيف تموت وستعرف كيف تحيا.هذا الكتاب الصغير بحجمه، الاستثنائي بموضوعه، ينقل قارئه عبر طيف من المشاعر الجياشة، فرحاً وتوتراً وحزناً، وأحيانا وصولاً إلى ذرف الدموع، وإن بشكل سلس جداً، وذلك عبر المواقف والموضوعات العديدة التي تناولها ميتش وموري في حديثهما الممتد، ورسم وصفها ميتش بعد ذلك ببراعة واقتدار. تلك الأفكار والإشراقات ستجعل القارئ، ولا شك، يعكسها على حياته، ليتفكر ويتأمل ويتساءل من جديد عن معان كثيرة لعلها كانت أشبه بالمسلمات بالنسبة له.كتاب "أيام الثلاثاء مع موري"، وكل كتب ميتش ألبوم، على حد علمي لم تتم ترجمتها إلى العربية، والحقيقة أنا لا أدري، هل أتمنى ترجمتها لتصل إلى قراء العربية، أم لا أتمنى ذلك خشية أن يتم "نحرها" على مذبح الترجمة الركيكة التي ملأت مكتباتنا بآلاف الكتب الغربية الرائعة المقتولة بالترجمة؟ ومن الجدير بالذكر أيضا أن هذا الكتاب قد تم تحويله كذلك إلى فيلم جميل، بذات الاسم، من إنتاج شركة أوبرا وينفري، وهو يستحق المشاهدة بدوره.أيام الثلاثاء مع موري، من أمتع ما قرأت، ومن أعمق الكتب التي لامست نفسي، فالكتاب لم يكن مجرد قصة، بل كان كشفاً لأعظم سر من أسرار الحياة، ألا وهو الموت، ولا تفاجأوا، فالموت سر، فهو الحقيقة الأشبه بالخيال، وهو الحقيقة التي يتحاشى الجميع أن يواجهها بكل قبول وأريحية، وهو الحقيقة التي وقف عندها موري عندما أبلغوه بتشخيص مرضه القاتل فسأل نفسه لحظتها: هل أعيش بقية أيامي زاوياً ذابلاً حتى أموت، أم تراني سأسعى للاستفادة من كل لحظاتي القادمة؟وهذا هو السؤال الجوهري حقاً، فكلنا سنرحل، طال الزمان أم قصر، فهل سنقضي أيامنا زاوين ذابلين بلا قيمة تذكر، أم ترانا سنسعى للاستفادة من كل لحظة من لحظات حياتنا القادمة؟!
مقالات
أيتها العصفورة... هل هذا هو اليوم؟!
07-07-2011