جلست خلال الفترة الماضية مع العديد من الشخصيات القريبة من دائرة صناعة القرار السياسي في البلاد، بل المرتبطة به بشكل وثيق، سواء في داخل الكويت أو خارجها، وذلك من خلال اجتماعات رسمية تارة ومناسبات اجتماعية تارة أخرى وأحيانا جلسات مغلقة على هامش أنشطة متنوعة سرعان ما كانت تجد طريقها جميعا للحديث في الشأن السياسي، بطبيعة الحال، وبشكل كثيرا ما سقطت معه كل الأقنعة وزالت كل التحفظات لتسود نبرة الصراحة والمكاشفة، استطعت أن ألمس بشكل غير سطحي أبداً نبض ما يجري في تلك الدائرة، وتعرفت على كيفية تدفق القرار من نقطة النشوء فالتشكل حتى التبلور الأخير.

Ad

لكن المضحك المبكي، ولن أكشف سراً هنا، بل لعلي لن أفاجئ الكثيرين، هو أن أغلب المتعاطين بالشأن السياسي، يعرف أغلبهم مسبقاً ما كنت اكتشفته من هذا الاقتراب، وكأنه لم يكن هناك من داع لأي اقتراب أصلاً للتعرف على هذه الحقائق، فشكل وهيئة وطبيعة المكشوف صارت تدل يقيناً على حقيقة شكل وهيئة وطبيعة الخافي، وكما قال ذلك الأعرابي الحكيم ذات زمان: "البعرة تدل على البعير"!

حقيقة هذه المرحلة في بلادي يا سادتي، أن القرار السياسي يُصنع في الغالب ارتجالاً وفقاً لظروف المرحلة بطريقة رد الفعل الصِرف على طول الخط، وهذا القرار لا يصنعه طرف واحد أبداً، وليس في هذا أي شيء جيد على الإطلاق، من باب غياب المركزية مثلا، بل الواقع الفاضح أن مجمل هذه القرارات السياسية التي خرجت عند المفاصل السياسية المختلفة من عمر البلاد في الحقبة الأخيرة، كانت من أطراف مختلفة غاب عنها التنسيق الجماعي والتخطيط المستقبلي، بل على العكس كان بينها، في كثير من الأحيان، خلافات وتنافرات وأحياناً شقاقات وصراعات، وليس هناك من داعٍ هنا لاستخدام العبارة الدرامية التي شاعت أخيراً فأقول، و"كان الضحية الوطن"!

لكن الحالة الجامعة اليوم لمجمل مكونات النظام عندنا، وكذلك ليس في هذا أي شيء إيجابي وللأسف، أنها تعاني في الأغلب حالة إنكار شديدة لمآلات الأمور، ولا تزال متشبثة بالفكرة الخادعة بأنه يمكن إعادة الواقع الكويتي، بعكس عقارب الساعة، وفي الاتجاه المعاكس لمسار التطور السياسي الذي يجتاح العالم بأسره، ولذلك نراها تحاول جاهدة أن تعالج المشاكل المستعرة العاتية التي لا تتوقف عن الاشتعال هنا وهناك في البلاد، إما بأسلوب "الدراهم"، وإما بأسلوب "المراهم".

والدراهم لعلها كانت ستنفع لو هي صرفت في مصارفها السليمة، بكل شفافية وفاعلية، لكنها ذهبت غالباً في الاتجاهات الخطأ نحو الأطراف الخطأ بالطريقة الخطأ، ناهيك عن وجود الهدر الفاحش والفساد المالي المتواصل الذي يعتور ميزانية الدولة إجمالاً.

كما أن المراهم، أي الحلول التخديرية المؤقتة التي لا تلامس سوى سطح الأشياء ولا تغوص في عمق المشكلة لتعالج أساساتها، ما كانت لتكون قادرة على تحقيق الأثر المطلوب ليواكب خطورة هذه المرحلة الصعبة جداً. كويت العقود الأربعة الماضية لن تعود يا سعادة النظام، والاستمرار في حالة الإنكار هذه لن يقودك بعيداً، بل لن يُبقي الأمور على حالتها، فالجسم الساقط لا يحتاج قوة تدفعه، بل تكفيه قوة الجاذبية حتى ينتهي بالاصطدام، والحالة السياسية عندنا، في ظل هذا التخبط، وعدم الجرأة في المواجهة بقرارات شجاعة على مستوى المرحلة، هو جسم ساقط مندفع وبقوة نحو الاصطدام، فما بالكم وهناك الكثير من القوى التي تساعد على دفعه، سواء من الداخل أو الخارج، وأعني بذلك الحراك الشعبي الداخلي، والظروف العالمية المتغيرة في الخارج؟ نحن إذن إزاء اصطدام عنيف جداً!

الواقع الاقتصادي للكويت، وهي التي لا تزال، وبكل غباء، مستمرة في وضع كل البيض في سلة واحدة، ومعتمدة فقط على تصدير النفط الخام كمصدر أوحد للدخل، متجه نحو عجز أكيد خلال سنوات ليست ببعيدة أبداً، وقادة البلاد، وهم يعلمون هذه الحقيقة المعروفة لأهل الاقتصاد، ويشاهدون في ذات الوقت زيادة الأحمال بشكل مجنون لا يتوقف على الموازنة العامة، كمن يقود البلاد إلى حتفها.

لم أكن أحاول من خلال السطور السابقة إعلاء روح التشاؤم عند القارئ الكريم، بقدر ما أني كنت أسعى إلى عرض الحقيقة عارية مجردة من كل "تزويق"، فالإنكار لا ينفع، ولن يقودنا جميعا إلا إلى الألم. وهذا بالضبط ما يحتاجه نظامنا اليوم، لابد من مواجهة الحقيقة العارية، والخروج من مرحلة الإنكار والتشبث بـ"نوستالجيا" الذي كان ومضى وانقضى.

الكويت اليوم بحاجة إلى قرارات مصيرية كبرى لا إلى بعثرة الدراهم والمسح بالمراهم؛ الكويت بحاجة اليوم، وليس غدا، إلى قرارات تنفذ إلى عمق الإصلاحات الدستورية، وإلى تعديل شكل الانتخاب وآلياته جذرياً، وكذلك طريقة تشكيل الحكومة، وإلى مواجهة جبارة شجاعة للمشكل الاقتصادي بأسرع وقت ممكن على يد المتخصصين المحايدين، سعياً إلى تنويع مصادر الدخل القومي وإيقاف الهدر والفساد المالي، وتحريك عجلة الإصلاح الإداري وتقييم الأداء والمحاسبة الحقيقية في كل مؤسسات الدولة، وقبل ذلك نحن، كشعب، بحاجة إلى أن نلمس استقراراً في كيان أسرة الحكم، فكل اضطراب هناك، مهما أنكر المنكرون، منعكس بلا شك على سائر الاستقرار السياسي في البلاد، فأيادي البعض من أبناء الأسرة، ولن أقول الكل، لا تريد أن تتوقف عن شد الخيوط وضغط الأزرار وحفر الحفر، بما يخدم مصالحها الفردية على حساب أطراف أخرى من الأسرة!

نحن الكويتيين نحب نظامنا السياسي، ونحب أسرة الحكم، بهيئتهم الجماعية الرمزية، وعلى مستوى أفرادها الذين تربطنا بهم الكثير من العلاقات، لكن الكويت تظل في قلوبنا أولاً وأخيراً وقبلهم جميعاً، وقد ولى زمان المجاملات على حساب الكويت.