لقد طرأ تطور خطير على ثورة 25 يناير في مصر خلال الأسبوع المنصرم، ربما يمكن وصفه بأنه أحد أهم التحديات التي واجهتها تلك الثورة منذ اندلاعها، رغم المحطات الصعبة العديدة التي مرت بها.

Ad

يوم الخميس الماضي، دخلت إسرائيل بوضوح على خط الثورة المصرية، وهي لم تدخل بتصريحات أو إجراءات سياسية ودبلوماسية أو دعاوى قضائية كما كان متوقعاً، لكنها دخلت بالدم.

من المؤسف جداً أن يتم اعتماد نظرية المؤامرة في مقاربة كل ما يقع من حوادث تتعلق بأدوار الدولة العبرية في منطقتنا العربية؛ إذ تسبب الإسراف في استخدام تلك المقاربة عبر أكثر من ستة عقود في تلطيخ سمعتها، وتقييد كل محاولة جادة لاستخدامها في تفسير أحداث ووقائع ذات صلة بها.

لكن استبعاد نظرية المؤامرة في تحليل الأوضاع التي مرت بها سيناء خلال الأسبوع الماضي سيكون عملاً مؤسفاً في حد ذاته؛ إذ لا يبدو أبداً أن تلك الأحداث قد جرت بالتداعي الطبيعي أو للتعبير عن تطورات تلقائية للتضاغط والصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، ونصيب الدولة المصرية منه.

منذ اندلعت ثورة يناير تم تفجير الخط الذي ينقل الغاز المصري إلى إسرائيل أربع مرات على الأقل، فضلاً عن محاولة خامسة جرت هذا الشهر وتم إجهاضها.

وفي غضون ذلك، فرضت "جماعات جهادية" وإسلامية سطوة وسيطرة واضحة على مناطق مختلفة في شبه الجزيرة، متوعدة بإعلان "إمارة إسلامية" في سيناء، بعدما حاصرت ودمرت مقار شرطية وقتلت رجال أمن.

أما التطور السياسي المصاحب لهذا الأمر، فلم يكن سوى مؤتمر سياسي ضم قيادات الجماعات السلفية التي أعلنت خلاله إقامة سلطة عرفية دينية للبت في الأمور والنزاعات وحفظ الأمن وفق الشريعة "حتى يعود الأمن إلى سيناء".

وبالطبع يمكن فهم أن حركة التهريب عبر الأنفاق بين مصر وقطاع غزة شهدت أزهى عصورها في تلك الأوقات، بالنظر إلى أن التهريب ليس فقط عملاً غير مجرم شرعاً وفق فقه بعض الجماعات النافذة في منطقة الحدود، ولكن لأنه أيضاً قد يندرج ضمن "الأعمال الجهادية" لكونه يغيث مسلمين تحت حصار عدو غاصب.

يبدو إذن أن انهيار النظام السابق ترك الدولة عاجزة عن فرض سيطرتها على سيناء، بينما تكبل اتفاقية كامب ديفيد الجيش وتمنعه من حماية الحدود وإقرار الأمن في المنطقة الشاسعة التي تحدد الاتفاقية عدداً قليلاً جداً من الجنود لحمايتها.

تظهر مؤشرات عديدة على أن بعض القوى المجهولة الهوية التي تنشط في سيناء حالياً، عبر اختراقات أمنية محسوبة، ربما تعمل من أجل فرض أوضاع معينة جديدة على الأرض، يمكن أن تكون مبرراً مقنعاً لإسرائيل للقيام بعمل عسكري تجاه مصر.

في أعقاب العملية النوعية التي استهدفت إيلات الخميس الماضي وأردت عشرات القتلى والجرحى الإسرائيليين، قصفت طائرات إسرائيلية المنطقة الحدودية في سيناء، فأسقطت قتلى وجرحى من الجنود المصريين، وهو ما اعترفت به لاحقاً السلطات العسكرية الإسرائيلية على أي حال.

لكن هذا الاعتراف لم يحمل أي قدر من الاعتذار، بل اقترن بتطاول نتنياهو وباراك، وانتقادهما السلطات المصرية لأنها "لا تحفظ الأمن في المنطقة"، وهو الأمر الذي تبنته أيضاً واشنطن سريعاً، على لسان وزيرة خارجيتها كلينتون التي طالبت المصريين بضمان تعهداتهم بحفظ الأمن في سيناء.

في نحو شهرين، حاول شبان مصريون من ثوار يناير الزحف إلى منطقة الحدود للتعبير عن غضبهم من الممارسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين في غزة، كما سعى المئات منهم إلى محاصرة مقر السفارة الإسرائيلية في قلب العاصمة، مهددين باقتحامه، ومطالبين بطرد السفير.

يتصاعد العامل الإسلامي في أوساط الثورة المصرية، خصوصاً منذ ما عرف بـ"جمعة الشريعة" في 19 يوليو الماضي، ويتضمن الخطاب المعبر عن هذا العمل وعوداً كثيرة فيما يتعلق بضرورة مراجعة العلاقات مع إسرائيل، كما ينطوي على تلويح مبطن لكنه شديد الوضوح يمكن فهمه على أنه "إرجاء المواجهة المحتومة لحين استكمال الاستعداد".

يلتزم التيار الليبرالي خطاً موضوعياً فيما يتعلق بمراجعة تلك العلاقات، ويركز على فكرة المراجعة المسؤولة للعلاقات بما يحقق المصالح والكرامة الوطنية المصرية، لكن ضمن هذا الخط ثمة تيارات يسارية وقومية وناصرية يمكن أن تكون أكثر تشدداً ورغبة في تصعيد الأمور مع الدولة العبرية.

يبدو أيضاً أن وقف الهدر والفساد اللذين انطوى عليهما النظام المصري المطاح سيمكن الدولة الجديدة من عناصر منعة وقوة غابت عنها طويلاً، إضافة إلى ذلك، فثمة شعور جارف لدى المجموع المصري بالعزة والفخر الوطنيين، وهو أمر غاب على الأقل لمدة ثلاثة عقود كاملة.

ستتعرض العلاقات الإسرائيلية- المصرية الراهنة بالتأكيد لمراجعة شاملة ستحد من فرص إسرائيل ومكاسبها وربما تشكل عليها ضغوطاً سياسية وأمنية، في حال جاء نظام ديمقراطي تعددي إلى الحكم، وهو النظام الذي سيتفاعل مع مطالب التيارات السياسية الراغبة في علاقات أكثر توازناً مع الدولة العبرية من جهة، والمزاج الشعبي العام المناهض لها من جهة أخرى.

قبل أيام، زار خالد مشعل مقر "الإخوان المسلمين" العلني في مصر، حيث طبع قبلة على جبين المرشد العام محمد بديع، وهو ما يعد إحدى ثمرات ثورة يناير التي سقطت ناضجة في سلة "الإخوان" و"حماس" وخط الممانعة بشكل عام.

تدرك إسرائيل بلا أي شك أنها فقدت "كنزاً استراتيجياً" ممثلاً في مبارك، وأن "مصر الجديدة" ليست سوى أحد خيارين: دولة ممانعة جديدة تصوغ علاقات ثنائية تحد من مكاسب الدولة العبرية وتشكل مزيداً من الضغوط عليها، أو دولة مضطربة هشة تصدر اضطرابات و"إرهابا" عبر الحدود.

تعد إسرائيل أحد أكبر الخاسرين من جراء إطاحة مبارك، وهي لا تريد أن تنتظر لتكون أحد أكبر الخاسرين لإطاحة نظامه بالكامل، وانتظار دولة ديمقراطية قوية ورشيدة تبحث عن حقوقها وتعظم مصالحها، أو دولة هشة تعمها الفوضى، فتشكل ضغوطا سياسية وأمنية هائلة عليها.

ولذلك، فإن أي تقييم جاد للتخطيط الإسرائيلي المفترض يجب أن يستبعد فكرة أن تبقى الدولة العبرية بعيدة صامتة تنتظر كيف ستحسم مصر أمورها.

واستنادا إلى هذا، فإن إسرائيل لا شك ستحاول أن تعيد الأمور إلى وضع مشابه لما كانت عليه قبل إطاحة مبارك، وأفضل وسيلة لإعادة تلك الأمور ليست سوى فرض تهديد حدودي قوي، يجعل الأمن القومي أهم من إعادة بناء الدولة على أسس ديمقراطية.

والأمل أن يتم تفريغ تلك المؤامرة من مضمونها، عبر التعاطي المنضبط المسؤول مع التغيرات الجديدة، ومحاولة استعادة الأمن سريعا في سيناء، من دون ضغوط تصعيدية، قد تسهل لإسرائيل خططها في استدراج المصريين لاشتباكات وقتال، أو انتهاك الحدود، وربما احتلال شريط في سيناء.

وإذا كان هذا التحليل صحيحاً بالفعل، فنحن إذن بصدد مؤامرة إسرائيلية لإيقاف عجلة الثورة المصرية، وإذا كانت تلك حقاً مؤامرة، فإن هناك أطرافاً داخل مصر تساعد على بلوغ أهدافها، وهو أمر بالطبع ينذر بمخاطر وخيمة.

* كاتب مصري