قد يكون الأمر مصادفة وبدون تخطيط، لكن أن تَرفع لجنة الحوار الوطني الأردنية توصياتها المتضمنة مشروع قانون جديد للانتخابات التشريعية ومشروع قانون جديد آخر للأحزاب والحياة الحزبية وتصورات محددة حول ما يمكن أن يجري على دستور البلاد من إصلاحات وتعديلات، في الذكرى الرابعة والأربعين لحرب يونيو (حزيران) التي كانت كارثة الكوارث والتي احتلت إسرائيل خلالها باقي ما تبقى من فلسطين وهضبة الجولان السورية وسيناء وحتى قناة السويس، فإن هذا له دلالة في غاية الأهمية وبخاصة بعد هذه الفترة الطويلة.

Ad

فالذي هُزم في الخامس من يونيو (حزيران) عام 1967 أمام إسرائيل والجيش الإسرائيلي هو أنماط الأنظمة التي دفعت العرب، وفي مقدمة هؤلاء العرب الأردن، دفعاً إلى هذه الحرب التي كانت خسارتها معروفة سلفاً، فمصر كانت قد خرجت تواً من حرب اليمن التي استنزفتها حتى العظم، وسورية كانت مستنزفة بانقلابات عسكرية متلاحقة ومتتالية، وذلك إلى حدِّ أن عدداً كبيراً من الضباط الذين أُودعوا السجون في أعقاب انقلاب الثالث والعشرين من شباط (فبراير) 1966 قد تم الإفراج عنهم بعد بدء العمليات العسكرية، وأرسلوا إلى وحداتهم على جبهات القتال بألبسة المعتقلات.

بعد كل هذه الأعوام يجب أن يكون العرب قد تأكدوا أن إسرائيل لم تنتصر عليهم بقواتها العسكرية، ولا بأسلحتها وقواتها الجوية، بل بديمقراطيتها، فالصراع كان ولا يزال صراعاً حضارياً، ولهذا فإنه كان مستبعداً أن تنتصر الدول العربية على الإسرائيليين، حتى وإن هي امتلكت كل ما كان لدى الاتحاد السوفياتي من أسلحة متطورة ومن قنابل نووية، مادام مواطنها بدون كرامة، ومادامت مجتمعاتها محكومة بالقمع والكرابيج، ومادام جزء من شعوبها نزيل السجون والمعتقلات والمواطن فيها لا رأي له ولا يحق له أن يتفوه بكلمة واحدة خارج سياق: «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة».

الآن، وبعد أربعة وأربعين عاماً، بدأ العرب يضعون أقدامهم على بداية الانتصار في هذا الصراع الحضاري، ولعل الإشارة الواضحة الدلالة على هذا الأمر أن الأردن خطا خطوة حضارية عريضة على طريق الانتقال إلى الدولة المدنية الديمقراطية، وأن شوارع بقايا دول الانقلابات العسكرية تشهد حالة غليان شعبي غير مسبوقة، وأن هذه الدول ستلتحق قريباً بمصر وتونس وباليمن، الذي وللمصادفة قد فارقه الرئيس الذي حكمه أكثر من ثلاثين عاماً هارباً بجروحه وبعائلته من غضبة شعبه الذي بات على مسافة بضع خطوات قليلة من الانتصار.

وحتى بالنسبة للأشقاء الفلسطينيين، الذين كانت تجربتهم مريرة بالفعل نتيجة فرض بعض دول الانقلابات العسكرية عليهم تنظيمات وفصائل جرت فبركتها فبركةً في دوائر أجهزة الأمن وأقبية المخابرات، فإنهم بدأوا بدورهم يضعون أقدامهم على بداية الطريق الصحيح، عندما أوجدوا في الضفة الغربية تجربة لا تزال في بدايتها، لكنها في كل الأحوال أثبتت أنها هي السلاح الأمضى لمواجهة إسرائيل، والدليل هو وقوف العالم بأسره باستثناء الكونغرس الأميركي إلى جانب خيار إقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود الرابع من يونيو (حزيران) عام 1967 ومن ضمنها القدس الشرقية.

إذن ولهذا كله، وبعد أن بدأت ينابيع الديمقراطية تتفجر في شوارع المدن العربية، فإن إسرائيل التي تعرف تمام المعرفة, وهي قالت هذا أكثر من مرة, أنها بقيت تنتصر على العرب لا بقدراتها العسكرية بل بكرامة مواطنها وبديمقراطيتها، باتت تعيش الآن حالة رعب حقيقية، فالعرب أخذوا يقتربون من امتلاك هذا السلاح الفتاك الذي انتصرت به عليهم، وهو الدولة المدنية والمواطن الحر غير المسلوب لا الإرادة ولا الكرامة... إنه سلاح الديمقراطية.