يمكـــــن النظـــــر إلـــــى الكــــاتـــــب البرتغالي جوزيه ساراماغو «Jos’e Saramago» (1922- 2010) كأحد أعظم كتّاب الرواية في القرن العشرين، وإذا كانت روايته «كل الأسماء»، تُعد واحدة من أهم وأمتع الأعمال الروائية في تاريخ الرواية العالمية، وقد تُرجمت إلى معظم لغات العالم الحية، ووصلت إلى ملايين القراء، فإن روايته «العمى» الصادرة عن دار المدى في طبعتها الثانية 2010، ترجمة محمد حبيب، قد تكون واحدة من قمم الرواية العالمية، بالرغم من وعورة عوالمها وصعوبة الإبحار حتى النهاية في مركب حكايتها، وبالتالي نخبوية قرائها مقارنة بروايات أخرى له.

Ad

إن نقلاً للواقع الإنساني الحي بحيويته ولغته وتشابكاته وتلويناته وفنتازيته العالية، ليكون فناً روائياً يشكّل مأزقاً وهاجساً كبيراً وصعباً لأهم روائيي العالم، فما بالك في خلق واقع فني قائم بذاته يجاور واقع الحياة، لكنه يتفوق عليه في قدرته على خلق عوالمه الخاصة وتقديمها في ثوب حكاية على أنها عالم واقعي. إن إنجاز مهمة كهذه بتفاصيلها الدقيقة التي لا تعدّ ولا تُحصى، هي مهمة تكاد تكون مستحيلة، إلا لمن يتمتع بموهبة عظيمة وصنعة لافتة، والحال هذه تنطبق على جوزيه ساراماغو في كتابته لأكثر من عمل روائي، ويأتي في المقدمة من ذلك روايته (العمى).

تدور رواية «العمى» حول انتشار وباء عمى أبيض في مجتمع ما، دون تحديد هوية ذلك المجتمع. يصيب فجأة الناس، من مختلف شرائح المجتمع، بدءاً بالسائق مروراً بطبيب العيون وفتاة مومس وانتهاء بمختلف أبناء المجتمع رجالاً ونساء، إلا امرأة واحدة ظلت مبصرة، لسبب طبي غير معروف، حسب تبرير الراوي. لكنه سبب واضح بالنسبة للرواية، وهو أن تكون هذه المرأة هي العين التي يرى من خلالها الراوي تغيرات وتبدلات المجتمع البشري، وهو يمرّ من حالة التحضر المصاحبة للإبصار، إلى حالة الوحشية المصاحبة للعمى.

«تعلمنا تجربة الزمن أنه لا وجود للعميان بل للعمى فقط» ص376، هكذا تخلص الرواية في مقولتها النهائية الأجمل. فالعمى يصيب قلب الإنسان وينعكس على تفكيره وسلوكه وتحضره، قبل أن يمسّ بصره ورؤيته للأشياء المحيطة به. وكم من أعمى أكثر بصراً وتحضراً وبصيرة من مبصر. الرواية ترصد بدقة فاضحة، المراحل التي يمرّ بها الإنسان في تحوله من النظافة إلى القذارة، ومن السلام إلى الوحشية، ومن الأمن إلى الرعب، ومن الوصل الطبيعي إلى الحرب الهمجية. وهي تقدم صورة بانورامية لما يمكن أن تعيشه مدينة ما قابعة تحت ظلال العمى. وتبدو الدلالة واضحة في مقولة ومقصد الرواية الأهم، والمتمثلة في أن عمى أي مجتمع في تفكير أبنائه إنما يقود ذلك المجتمع إلى حالة من التقهقهر الحضاري وحالة من العودة إلى إنسان الغاب وحالة من النكوص في المسلك الإنساني.

إن اللغة الفريدة التي يكتب بها جوزيه ساراماغو أعماله الروائية، والتي تدلل على ثقافة موسعية كبيرة، إنما تجعل من الرواية إبحاراً في الخصال الإنسانية، وتجعل منها في جهة ثانية كتاباً مفتوحاً لمن يريد أن يرى كيف يمكن كتابة رواية جامعة للمسلك الإنساني ومعبرة عنه.

إن إحدى اللقطات الجميلة والدالة في الرواية، تلك اللقطة التي تظهر استمرار الكاتب الأعمى في عمله حين يتوقف الجميع عن العمل، وهو يبرر ذلك بقوله: «إني أسجل المعاناة فحسب» ص340، وكأن مهمة الأدب والفن هي تسجيل معاناة البشر حينما يعجز الجميع عن القيام بذلك. وإذا ما أضفنا إلى ذلك أن متع الحياة تنتفي بالنسبة للأعمى إلا متعة استماعه لكلمات كتاب، «لا موسيقى الآن سوى موسيقى الكلمات» ص352، فإن هذا يعني أن الأدب وحده قادر على إمتاع الإنسان حينما تنتفي عن العالم أية متعة أخرى.