حين أحرق مسلمون غاضبون كنيسة في "أطفيح" جنوب القاهرة، في شهر مارس الماضي، ضمن تطورات محزنة لحادث طائفي اشتعل على خلفية علاقة آثمة بين شاب مسيحي وفتاة مسلمة من السكان، هرع مسؤولون إلى المنطقة لتفقد الأوضاع ومحاولة السيطرة عليها.

Ad

كان أحد المسؤولين الذين أتوا إلى "أطفيح" للتعرف إلى تطورات المشكلة، يستمع إلى تلخيص من مسؤول محلي عن الأحداث، حين نطق هذا الأخير كلمة "السلفيين"، مشيراً إلى دورهم في ما حدث، وهنا سأل المسؤول القادم من العاصمة ببراءة شديدة: "سلفيين... يعني إيه... مين السلفيين دول؟".

لم يكن المسؤول يتساءل سؤالاً استنكارياً، لكنه لم يكن يعرف معنى الكلمة على وجه التحديد، وهذا أمر يمكن فهمه على أي حال، ليس غمزاً من قناة المسؤولين وضعف قدراتهم وقلة معارفهم، ولكن لأن كلمة "السلفيين" لم تكن معروفة على نطاق واسع في المجال العام المصري في تلك الأثناء.

لعقود طويلة، ظل السلفيون هادئين في المجال العام المصري، تعرفهم بلحاهم الطويلة المرسلة، وجلابيبهم القصيرة، وغطاء الرأس الموضوع بغير عقال، والسواك في جيب الجلباب العلوي، والموقف المهادن مع السلطة.

نعم... كان السلفيون يهادنون السلطة طوال عهد حسني مبارك، إلى درجة أنهم لم يعلنوا كجماعات أو تنظيمات عن مشاركتهم في تظاهرات يوم 25 يناير الماضي التي أطلقت الثورة، رغم مشاركة بعضهم بشكل شخصي مشاركة فعالة.

وحينما مالت الكفة لمصلحة الثوار، ظل بعض قادتهم أيضاً على موقفه، حتى أن أحد وجوه الدعوة السلفية، وهو الشيخ محمود المصري، أعلن في 4 فبراير الماضي، قبل تنحي مبارك بأسبوع واحد، ان "من يتظاهر يعرض حياته وأسرته ووطنه للخطر"، مناشداً المتظاهرين على قناة التليفزيون الرسمية: "أن ارجعوا إلى بيوتكم من أجل مصر".

يبدو موقف الشيخ المصري متسقاً بوضوح مع أدبيات سلفية عديدة في الواقع المصري، استندت أساساً إلى موقف مبدئي، بدا أن ثمة اتفاقاً "شرعياً" عليه؛ مفاده، بحسب تلك الأدبيات: "اطع ولي الأمر حتى لو جلدك وسلب أموالك".

لكن الأمور تغيرت بشدة بمجرد أن نجحت الثورة في تسجيل أول إنجاز لها، مجبرة مبارك على التنحي، حيث تصدر السلفيون المشهد، محاولين تجيير مكاسب الثورة لمصلحتهم، وغسل سمعتهم مما لحق بها جراء ما ثبت من تخليهم عن الممانعة والتظاهر ضد النظام السابق منذ اليوم الأول من أيام الثورة.

ولذلك، فقد بدأ عدد الملتحين والمنتقبات يزيد جمعة بعد جمعة داخل ميدان التحرير، وظهر السلفيون كثيراً في أقنية الإعلام المختلفة، متحدثين عن مستقبل مشاركتهم في العملية السياسية، باعتبارهم "جزءاً من الثورة يريد نصيبه من مستقبل البلاد الذي شارك في التخطيط له وصنعه".

وبقدر ما كان موقف السلفيين باهتاً ومهادناً للسلطة قبل الثورة، بقدر ما تم تعويض هذا الهدوء بمعارضة متشددة، وظهور عارم، وحس استعلائي، وزهو متضخم، بعد إزاحة النظام السابق.

وقد ظهر السلفيون بوضوح لاحقاً في كل حادث من حوادث "الفتنة الطائفية"، حيث كانوا هناك في كنيسة "صول" بـ "أطفيح"، التي أُحرقت، كما ظهروا في أحداث إمبابة، حين أشعل مسلمون غاضبون النيران أيضاً في كنيسة واعتدوا على كنيسة أخرى، أثناء محاولة لتحرير ما قيل إنها "مسيحية أسلمت وتم احتجازها بواسطة كهنة"، وهو الحادث الذي ثبت لاحقاً أن السبب وراءه خلافات زوجية بين زوجين مسيحيين، أدت إلى هروب الزوجة مع شخص مسلم بعد الزواج منه، قبل أن تحاكم بتهمة الجمع بين زوجين.

نظم السلفيون الكثير من التظاهرات، وبعضها حاصر الكاتدرائية الرئيسة للكنيسة القبطية في منطقة العباسية وسط العاصمة، كما شنوا معارك "إلكترونية" وإعلامية مكثفة، استهدفت "مسيحيين وعلمانيين"، تحت دعاوى دينية.

وسعوا أيضاً إلى احتلال منبر أحد أهم مساجد العاصمة، على خلفية منازعات قضائية مع جهة الإدارة على ملكية المسجد، وأخيراً، فقد تحدوا السلطات علانية، معلنين عدم التخلي عن "المنبر" مهما حدث.

الأمر لم يتوقف عند ذلك، لكن السلفيين أظهروا همة عالية للغاية على هامش الاستفتاء الذي جرى في مصر في أعقاب إطاحة النظام في مارس الماضي، وهو الاستفتاء الذي تم بمقتضاه تعديل بعض المواد الدستورية، ووضع خريطة طريق للتحول الديمقراطي.

وقف السلفيون بوضوح مع القول بـ "نعم" في الاستفتاء، وهو موقف سياسي لا غبار عليه، رغم اعتراض قطاعات في النخبة، لكن الإشكال تمثل في الدعاية التي مارسها السلفيون للترويج لـ"نعم"، حيث ربطوا بين الموافقة على التعديلات والدين، واعتبروا "التصويت بنعم واجباً دينياً"، بل إن أحد أهم شيوخهم، وهو الشيخ محمد حسين يعقوب، وصف إقرار التعديلات بـ "غزوة الصناديق"، مطالباً المتذمرين من النتيجة بـ"الهجرة خارج البلد... لأن البلد بلدنا واللي مش عاجبه يهاجر".

يبدو أن السلفيين عازمون بقوة على المساهمة في صياغة المستقبل السياسي للبلاد، لكن بعض قادتهم، مثل الدكتور جمال المراكبي، عضو مجلس شورى العلماء السلفي، يعرب عن موقف خطير من الديمقراطية، حين يقول إن "المجلس سيقدم النصح والإرشاد لأي مرشح رئاسي، حتى بعد نجاحه في الانتخابات، وفي حال رفض تطبيق القوانين الإسلامية وظل على تطبيق القوانين الحالية، سندعو الناس إلى تجاهلها، ونرفض تطبيقها علينا".

ليس هذا فقط، فقد أكد سلفيون آخرون ضرورة البدء بـ"إقامة الحدود"، بينما شدد بعضهم على البدء بـ"تحرير الأسيرات المسلمات (مسيحيات يقال إنهن التحقن بالإسلام) في الكنائس والأديرة"، في ما ذهب قطاع منهم إلى ضرورة "فرض الجزية" على المسيحيين.

في الأسبوع الماضي، أكد السلفيون مجدداً قدرتهم على البقاء في بؤرة الأحداث وإلهام وسائل الإعلام المختلفة بالعناوين العريضة. فثمة ثلاث قصص مهمة تناولتهم في مواضع مختلفة، أولاها تلك القصة المحزنة، التي تتعلق بمقتل "شيخ سلفي" مقعد، وذبح زوجته بعد اغتصابها، على يد أحد أتباع الشيخ، من الملتحين الذين يرتدون الجلباب، والذين شاركوا في أحداث "جمعة الغضب الثانية" في ميدان التحرير. وقد ثبت، من خلال التحقيقات الأولية، أن القاتل كان شقياً مسجلاً ومدمنا للمخدرات، قبل أن "يتوب على يد الشيخ المقتول" ويشارك في التظاهرات.

أما القصة الثانية، فتتعلق بمعركة قام بها سلفيون ضد رجال الشرطة في محافظة الشرقية، مستخدمين السنج والسيوف، اعتراضاً على إصابة أحدهم عند محاولة الشرطة توقيفه لتنفيذ حكم قضائي ضده، وقد تزامنت تلك القصة مع "قرصنة إلكترونية" شنها "متعاطف مع السلفيين" على موقع جريدة يومية، لأنها نشرت كاريكاتيراً اعتبره "مسيئاً" بحقهم.

لكن القصة الثالثة هي الأهم على أي حال؛ ففيها يدشن سلفيون شبان دعوة على موقع "فيس بوك" لإطلاق مليون لحية قبل حلول شهر رمضان المبارك، في ما يبارك الشيخ محمد حسان الداعية السلفي المشهور الدعوة، متمنياً أن يرى "80 مليون لحية في مصر"، ويزيد الداعية الشيخ صفوت حجازي من جانبه، متمنياً "حملة لمليون نقاب أيضاً".

لا تعطي القصص الثلاث على أهميتها صورة كاملة لما يمكن وصفه بـ"الغزو السلفي" لمصر ما بعد الثورة، حيث يبقى ركن مهم، تكشف عنه قصة رابعة تقول إن أحزاباً دينية تم تشكيلها حديثاً، أو في طور التشكيل، اتفقت على التنسيق لعقد تحالف بينها لضمان الفوز بأكبر عدد من مقاعد مجلس الشعب في الانتخابات المنتظرة، والتي ستسهم في تحديد شكل البلاد في المستقبل.

وبالتالي فإن اللحية والنقاب، مع الفقر والجهل، ستكفل تمركزاً رائعاً للسلفيين في أعماق البلد المعتمة، في ما ستتكفل الدعاوى الطائفية بتعويمهم في أطراف المدن المهمشة، وستتغاضى التيارات السياسية ذات الإسناد الديني الأكثر استنارة عن كثير مما يعتري خطابهم وسلوكهم من خطل، طمعاً في تنسيق على طريقة "أنا وابن عمي على الغريب"، وهو خطر لو تعلمون جلل.

* كاتب مصري

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

يمكنك متابعة الكاتب عبر الـ RSS عن طريق الرابط على الجانب الايمن أعلى المقالات السابقة