مع البرومز من جديد

نشر في 21-07-2011
آخر تحديث 21-07-2011 | 00:01
No Image Caption
 فوزي كريم بدءاً من الساعة السابعة والنصف مساءً أعددت النفس للانصراف، وفق المزاج أو الذائقة، إلى راديو 3 هذه الأيام، لأصغي إلى ما يقدم مهرجان «برومز» Proms الموسيقي لجمهوره، من قاعة «ألبيرت الملكية»، كبرى قاعات الموسيقى في العاصمة البريطانية.اليوم عملٌ جديدٌ علي، ولكنه استثنائي. عمل ملحمي اقتنيته على اسطوانة السي دي مؤخراً، وها أنا اسمعه في هذا العزف الجديد على الهواء مباشرة. العمل سيمفونية مصنف (1)، الملقبة

بـ»القوطية»، احتفاءً بعصر موسوعية المعرفة (ولقد استوحى المؤلف شيئاً من «فاوست» كنموذج)، تأليف الإنكليزي هافيرغال بِريان (1876-1972). ضخمة (ألف مشارك و200 عازف)، طويلة تمتد لقرابة ساعتين. تعتمد دراما «فاوست» الذي يتسم بعشق المعرفة الواسعة، من بين ما تعتمد، إلى جانب إيحاءات وفية لموسيقيين سابقين مثل فاغنر، بروخنر، شتراوس، إلغار وشوينبيرغ. ولكن السيمفونية في جوهرها إدانة لعصرنا البربري، الذي لم تشهد من مرارته حين اكتملت بين يدي مؤلفها غير حربه العالمية الأولى. في حين عاش بريان ليشهد، بعد تأليفه لها، الحرب العالمية الثانية أيضاً.

هذا «البرومز» اللندني عجيب. عمره الآن تجاوز 100 سنة. يمتد أكثر من شهرين من كل عام. لا يكتفي بحفلة مسائية، بل ينتشر على ساعات اليوم الواحد، وعلى مساحات مختلفة من لندن. تُخلى الدائرة الواسعة في وسط قاعة «ألبيرت» من الكراسي، من أجل أن تضم أكبر عدد ممكن من الجمهور الواقف على قدمين طوال العزف. لا يحتمل هذا إلا شاب. ولذلك كان وظل هذا المهرجان مُكرساً للشبيبة التي تعشق الموسيقى الكلاسيكية. كنت أرتاده قبل ربع قرن. أشتري التذكرة بجنيهين، منتخباً خلوة عالية دون كراس، تُطل على القاعة بمسرحها وجمهورها، عبر حاجز حديدي مشبك، يسمح لي أن أستريح على الأرض وأشاهد، وأسمع. مع علبة بيرة وساندويتش أحملهما معي في الحقيبة. إطلالة بالغة الاسترخاء. وعادة ما يبلغ الصوت إلى هذه الأعالي في أصفى درجاته. وأغفل، عن إرادة، حرارة الأنفاس البشرية الخانقة أحياناً.

في أواخر القرن التاسع عشر اندلعت شرارة المهرجان من مُقترح «روبرت نيومن» مدير قاعة «الملكة»، التي هُدمت بقصف طائرات الرايخ، في الحرب الثانية. ولكنه ظل تحت اسم «هنري وود»، الذي أسس أول أوركسترا ثابتة له. في مطلع هذا النشاط كان كل من فيردي، سانغ سونغ، دفورجاك، ماسينيه، كورساكوف، فوريه، إلغار، ديبوسيه... معاصرين شباناً، باستثناء فيردي الذي تجاوز الثمانين.

بعد الحرب الثانية وقع الاختيار على قاعة «ألبيرت الملكية» الفارهة، التي تتسع لسبعة آلاف مشاهد. القاعة بُنيت في 1901.

وبسبب العوز المالي آنذاك اضطر المُعتمد إلى بيع بعض مقاعدها للأفراد، كملكية خاصة، بسعر مئة جنيه استرليني للكرسي الواحد، لمدى 999 سنة. واليوم تبلغ المقاعد المباعة 1287، موزعة على 350 مالكاً، من ضمنهم الملكة فكتوريا، التي اشترت حينئذ عشرين مقعداً، تشكل اليوم الجناح الملكي.

كانت القاعة تعاني مشكلة تردد الصدى ساعة العزف أو الغناء. المايسترو الشهير توماس بيتشم قال، في واحدة من تعليقاته اللاذعة: «الجمهور رابح لأنه سيسمع كلَّ حركة موسيقية مرات ثلاث!» وأحسب أن المحاولات العديدة لمعالجة هذا الخلل قد انتهت إلى حلول موفقة. فالمشاهد اليوم يألف هذه الأقراص المعدنية الكثيرة، المعلقة بطريقة متفاوتة، من السقف فوق رأسه.

مهرجان «البرومز» لا يكتفي بتقديم منتخبات من الأسماء اللامعة، المألوفة. رغم أن بعضها أصبح من علامات المهرجان الثابتة، التي يصعب تجاوزها: باخ، هاندل، هايدن، موتسارت، بيتهوفن، شوبرت، تشايكوفسكي، شوبان... إلا أن من أولى مهماته أن يقدم الأصوات الشابة الجديدة. لا في حقل التأليف وحده. بل في حقل الأداء أيضاً: قائد أوركسترا، عازف، مغنٍ...

غداً سأحضر حفلة المساء، ولكن على كرسي هذه المرة. أسمع كونشيرتو ثلاثي البيانو (بيانو، فايولين، تشلو) لبيتهوفن. وأسمع عملاً صغيراً بالغ العذوبة، ذا مسحة دينية للفرنسي ميسيان. وأصغي إلى عمل جديد لا عهد لي به للفرنسي باسكال دوسابِن. المؤسف أن عازفة البيانو الكبيرة مارثا آرجيريك قد اعتذرت عن المشاركة في عزف بيتهوفن.

back to top