لم يخلف جيمس جويس نتاجاً غزيراً، ولكن الأعمال المعدودة التي وضعها خلفت غزارة في الاستجابة الطباعية والنقدية. مجموعة قصص "الدبلنيون"، ومسرحية "منفيون"، وثلاث روايات: "صورة الفنان شابا"، و"يوليسيس"، و"فينيغان وَيْك" هذه الأعمال وضعت جويس الشاعر في الظل.

Ad

كتاب "جيمس جويس: قصائد وكتابات قصيرة" الذي أصدرته "فيبر أند فيبر" من جديد، يكشف عن هذا الجانب، وجوانب أخرى حاسمة في طبيعة كتابات جويس اللاحقة والأساسية.

فالنصوص المبكرة، إلى جانب المجموعات الشعرية "تجليات"، و"صورة الفنان"، و"جياكومو جويس" إنما تشكل، مع طبيعتها الاوتوبيوغرافية المعروفة في نتاج جويس الأدبي كله، سكيتشات صغيرة للأعمال الكبيرة التالية، وتكشف عن الضوابط الدقيقة التي يضعها جويس في الحساب وهو داخل تيار فاعليته الإبداعية. فاللمسات الصغيرة هنا ستأخذ حجمها الطبيعي هناك، والإشراقات التي يحتفظ بها في كلمات وسطور قليلة ستجد مراكزها في تيار النمو الطبيعي.

في السياق العام كان جيمس جويس شاعراً. أول نتاجه الذي كتبه وهو في التاسعة قصيدة عن "ستيوارت بارنيل" البطل الايرلندي الذي ألقى ظلاله على معظم قصص "الدبلنيون" وعلى رواية "صورة الفنان شابا". كما أن آخر نتاج له كان قصيدة رائعة يختم بها روايته الأخيرة "فينيغان ويْك" .

الشعر ظل وسيط جويس الطبيعي للتعبير عن وجدانه الأكثر شخصية. هذا واضح في مجموعته الشعرية الأولى "موسيقى الغرفة" (1907) التي نشرها وهو في الخامسة والعشرين. فوراء سطحها الذي يبدو تقليدياً، نتبين تطوره الروحي للسنوات 1901-1904، هناك قصائد أخرى مبكرة جمعها جويس تحت عنوان "أمزجة" و"مشع ومظلم". تلك القصائد التي تنتسب إلى مناخ تسعينيات القرن الماضي تحمل لمسات الرومانتيكيين، بعضها وجد طريقه بعد سنوات في رواية "صورة الفنان" وبعضها ضاع دون أثر.

قصائد "موسيقى الغرفة" لم تخلُ من تلك اللمسات الرومانتيكية، ولكن أثر غنائيات الشعر الاليزابيثي أوقع فيها. فبالإضافة إلى أن جويس كان مغنياً جيداً وشديد التعلق بالموسيقى، الاليزابيثية منها خاصة، كان يطمع في عمل مشترك مع موسيقي يستطيع أن يلحن له نصوصه هذه، ولقد تحقق حلمه في ما بعد.

"موسيقى الغرفة"، لاقت نجاحاً خاصة وقت صدورها. ولكن جويس سرعان ما أخذ منها موقفاً سلبياً، فهي على شيء من الميوعة العاطفية، وهو الحريص على إحكام السيطرة على ما هو عاطفي، وهذا التواتر بين القطبين أخذ بعد ذلك هيئات أكثر تعقيداً، منها التواتر بين الغنائي والدرامي في النصوص النثرية التي نشرها تحت عنوان "تجليات".

إن جويس، لكي يحقق تلك السيطرة على العاطفي، وجد نفسه أحوج إلى مزيد من الموضوعية التي يمكن أن تتحقق في العمل القصصي، ولعل هذا الميل يكمن وراء اندفاعته إلى هجران الشعر باتجاه الرواية.

من قصائد هذه المجموعة التي تستحق انتباهة خاصة، قصيدة "إنني أسمع جيشا" (1903)، وهي رغم غنائيتها، تستهدف في بنيتها الطاقة الصوتية، وتنفرد بالصورة المرئية الحادة، الأمر الذي دفع الشاعر ازرا باوند إلى اختيارها ضمن مختارات نشرها للمدرسة "الصورية" آنذاك (1914): "أسمع جيشاً يدب عنيفاً على الأرض/ أسمع رعد خيول يقتحم، زبدها حدّ الركب

مقاتلو العربات متغطرسون، وراءها، بالعدة السوداء

مزدرين بالأعنة مع السياط المفرقعة/ إنهم يصرخون باسم حربهم إلى الليل:

في النوم أعول، وأنا أسمع من بعيد ضحكهم المدوم

إنهم يخترقون ظلمة الأحلام لهبا أعمى/ يرن، يرن فوق القلب كمطرقة فوق سندان

إنهم يجيئون نافضين بانتصار شعورهم الخضراء الطويلة

إنهم يجيئون خارجين من البحر وعلى الشاطئ/ يركضون صارخين

يا قلبي، أتعوزك الحكمة إلى هذا الحد فلا تيأس؟! (ص 48).

بعد "موسيقى الغرفة"، أصدر جيمس جويس مجموعة "قصائد بني ايتش" (1927)، ولعل أهم ما فيها سلسلة قصائد كتبها في مدينة تريستي بين 1913-1915، وهي الفترة التي بدأ فيها جويس يستشعر تحولاً جدياً في مساره الإبداعي.