في أعقاب الثورات التي اجتاحت بعض الدول العربية واتخذت أساليب المظاهرات والمسيرات والاعتصامات تعبيراً عن الاحتجاج على النظام القائم ونجح بعضها في إسقاط النظامين التونسي والمصري، برزت "فتاوى المظاهرات"، وهي الفتاوى التي صدرت عن علماء دين وأثارت ردود فعل حول شرعية المظاهرات وحكمها في الإسلام.

Ad

في السعودية أصدرت هيئة كبار العلماء، وهي أكبر جهة دينية، فتوى بتحريم المظاهرات وساندها علماء في بعض الدول العربية، وهي فتوى تتسق مع الموقف التقليدي للاتجاه السلفي الذي يرى أن ولي الأمر يحكم مدى الحياة، وهذا ثابت بالنص والإجماع؛ أما النص ففعل الرسول صلى الله عليه وسلم الذي حكم حتى توفاه الله تعالى، وأما الإجماع فعمل الخلفاء الراشدين الذين حكموا حتى وفاتهم، كما أن المظاهرات تمثل نقضاً لحق السمع والطاعة للحاكم مصداقاً لـ"أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم" و"عليك السمع والطاعة في عسرك ويسرك ومنشطك ومكرهك"، كما أنها تؤدي إلى الفوضى والإضرار بمصالح البلاد والعباد، وهي أسلوب مستورد من "دول الكفر"، تبدأ سلمية ثم تنتهي بإراقة الدماء، وهي أمر مبتدع لا صلة له بالإسلام، ويؤدي إلى اختلاط الرجال بالنساء، وقد حرم الإسلام منازعة الحاكم في سلطته للحديث المشهور "وأن لا ننازع الأمر أهله"، وتداول السلطة وأختها المظاهرات هي من النظام الديمقراطي المخالف للإسلام وتؤدي إلى سباق الناس على السلطة.

في الجانب الآخر، رفض علماء من تيار الإسلام السياسي هذه الفتوى وأصدروا فتاوى بشرعية المظاهرات والاعتصامات، ومنهم من أفتى بوجوبها وقال "إن النزول إلى الشارع يوم الجمعة- جمعة الرحيل والخلاص- واجب شرعاً على كل قادر لا عذر له"، ولم يتورع بعضهم من تسخير منابر الجمعة في شحن وتعبئة الجماهير والتحريض السياسي على إسقاط النظام، بل والتخلص من الحاكم المعتصم بعسكره، ومنهم من أخذته الحماسة الثورية فلم يكتفِ بالخطب الثورية فقرر أن يشارك الثوار فانسل إلى ميدانهم وخطب فيهم وصلى بهم فاستحق وصف "شيخ الثوار والأحرار".

وإذا كان للفقهاء المحرمين للتظاهر حججهم فإن المجيزين عندهم مثلها وأكثر، فالقرآن والسنّة حافلان بالنصوص المحرِّمة للظلم والمتوعدة بالعذاب ولا يمكن لدين من شأنه الخلود أن يقر السكوت على الاستبداد وشيوع الفساد، ولهذا شرع الإسلام مبدأ "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، ولا معروف أعرف من "العدل" ولا منكر أنكر من "الظلم" كما قال الإمام محمد عبده، كيف لا يكون التظاهر مشروعاً وقد أعطى الإسلام كل فرد الحق في إبداء رأيه وجعل من أظهر سمات المجتمع الإسلامي الجهر بالحق وعدم السكوت على الظلم والفساد؟!

بل إن الإسلام لم يكتفِ بتقرير هذا الحق، بل فرضه فرضاً بحيث يأثم المجتمع إذا تقاعس واتخذ موقفاً سلبياً من تجاوزات السلطة متمثلة في احتكار الحكم والمال والنفوذ واستشراء الفساد والمحسوبية والرشاوى والإثراء غير المشروع وإذلال الناس وقهرهم وتحقيرهم وانتهاك كراماتهم، وفي الحديث "والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً ثم تدعونه فلا يستجاب لكم"، وأما القول بأن المظاهرات تنقض حق الطاعة للحاكم فغفلة عن النصوص التي جعلت الطاعة غير مطلقة بل مقيدة بحدود قواعد الحق والعدل والحرية، فلا طاعة في التجاوزات الظالمة بنص الحديث "إنما الطاعة في المعروف"، وبنص القرآن "ولا تطيعوا أمر المسرفين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون"، والحكام الظلمة يفسدون ويسرفون في الفساد فكيف لا يباح التظاهر ضدهم؟ ثم كيف يكون الحاكم بمنأى عن المحاسبة، وهذا أبوبكر الصديق رضي الله عنه يطالب الأمة بمراقبته وتقويمه إذا انحرف، وهذا عمر رضي الله عنه يقول "من رأى منكم فيّ اعوجاجاً فليقومه". وصحيح أن التظاهرات أسلوب حديث ومستورد في محاسبة الحاكم، لكن الأساليب تختلف باختلاف الزمان، ونحن غير متعبدين بأسلوب معين للتعبير عن الرأي في تقويم السلطة.

صحيح أن المعارضة الفردية كانت مجدية في عهد الراشدين لشيوع التقوى وخوف الحاكم من الله تعالى ولصغر المجتمع ومعرفة الناس بعضهم بعضا، لكن أسلوب المعارضة الفردية أصبح عقيماً في عصرنا، إن الفرد الوحيد لا يستطيع أن يقدم أو يؤخر ما لم تسنده جماعة تدعمه وتحميه، ومهما أحسنّا الظن بالحاكم وتقبله لدعوة الإصلاح، فإنه لابد من مراعاة الضعف البشري للحاكم وإغراءات السلطة عليه ومداهنة البطانة له وحجبهم عنه ما يسوءه أو يعكر مزاجه، ومن هنا كانت المعارضة الجماعية السلمية متمثلة في التظاهرات هي الأسلوب الأنسب للتعبير عن الرأي بهدف منع تجاوزات السلطة، فكيف يستطيع الفرد وحيداً أن يقول كلمة الحق التي يجب أن تقال مصداقاً للحديث "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر" من غير ضمانات؟! ومن هذا الذي يجرؤ على ذلك؟ وهب أنه تجرّأ وقالها، فهل يضمن التغيير والإصلاح؟!

إن الشعوب وحدها في عالمنا اليوم هي القادرة على المواجهة وعلى قول كلمة الحق وعلى إمكانية التغيير، والمظاهرات في النهاية ما هي إلا مظهر من مظاهر التعبير عن الرأي، وهي التجسيد المعاصر والفاعل لقاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأما القول بأن ولي الأمر يحكم مدى الحياة بحجة أن الخلفاء حكموا حتى وفاتهم فليست بحجة لأن تحديد المدة من المصالح المرسلة، إذ لا يوجد في الشريعة ما يمنع ذلك، خصوصاً أن التجارب المعاصرة أثبتت أن التحديد ضمانة أساسية للحاكم والمحكوم ضد الاستبداد، ولأن "ثقافة الفتوى" أصبحت الزاد اليومي للمسلم فإنه أمام تضارب الفتاوى يجد نفسه في حيرة: فهو إن خرج في تظاهرة ارتكب محرماً في نظر فريق، وإن قعد عن الخروج استحق أيضاً إثماً في نظر فريق آخر، وذلك بأن فتاوى المظاهرات وغيرها من الأمور السياسية ما هي إلا غطاء شرعي لمواقف سياسية معينة، فمن مع الاستقرار وعدم انتقال النار الليبية يقول بحرمة التظاهر، ومن هو مع التثوير وفتح أبواب المجهول يقول بجوازه، طبقاً لمشاري الذايدي!

أهل الإفتاء أصبحوا اليوم منغمسين في العمل السياسي وصاروا أطرافاً في لعبة الصراع السياسي بين موالٍ للنظام ومعارضٍ له، وقد يتناقض بعضهم في مواقفه فيؤيد التظاهر في مكان ويمنعه في مكان آخر طبقاً لتحالفاته مع هذا النظام أو ذاك! وإذا كانت المظاهرات ضد النظام محل جدل فقهي فماذا عن اتفاق جمهور فقهاء السنّة على تحريم الخروج على الحاكم، ولو كان ظالماً بحجة الخوف من الفتنة؟! والجواب أن الفقهاء الأجلاء رحمهم الله تعالى عندما حرّموا الخروج على الحاكم، إنما قصدوا "الخروج المسلح" لأن الثقافة السياسية السائدة في زمنهم لم تكن تتصور خروجاً سلمياً معارضاً أو معبراً عن الرأي! وعذر الفقهاء أن كل التجارب السابقة في المعارضة منذ الراشدين وحتى عصرهم كانت كلها خروجاً مسلحاً يعيث فساداً في الأرض: يستحل الدماء ويقطع الطريق وينهب ويثير الذعر بين الناس، إذ لم يعرف التاريخ الإسلامي المعارضة السلمية للتعبير عن الرأي السياسي كما تجسدها اليوم الأحزاب والجماعات الناشطة والتظاهرات والمسيرات والتي يرى كثير من الباحثين في السياسة الشرعية أنها تجسد وتفعل مبدأ "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" في العصر الحديث، ويبقى أن نضيف: إن التظاهرات ليست موجهة دائماً ضد النظام، بل هي تعبير عن وجهة نظر قد تكون مؤيدة للنظام أو قد تكون للاحتجاج ضد إساءة معينة في الخارج، وهي أسلوب مألوف حتى في أعرق الديمقراطيات، ولذلك فإن معظم الدساتير العربية تجيزها.

* كاتب قطري

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

يمكنك متابعة الكاتب عبر الـ RSS عن طريق الرابط على الجانب الايمن أعلى المقالات السابقة