جرّبْ وحاول أن تشيد بقناة فضائية ما، عند قيامها بعمل جيد في تغطيتها لموضوع ما، كقيام "الجزيرة" هذه الأيام بعمل جيد في تغطيتها لأخبار الثورات العربية، وأجزم بأنه سيظهر لك من يعارضك قائلا إن لهذه القناة موقفا سيئا من تلك القضية، أو أن يقول لك متحدياً: وأين هي من قضية كذا وكذا؟ هذه الردود التي تتكرر دوما، ومن أشخاص بعقليات وثقافات مختلفة، هي التي دفعتني للكتابة حول فكرة مقال اليوم، وهي التي كنت أظنها بدهية جدا.

Ad

يا سيداتي وسادتي، هل منكم جميعا من يعتقد حقا أن إنشاء القنوات الفضائية وتجهيزها بالمعدات التقنية المطلوبة، ومن ثم بالبرامج والمواد الإعلامية اللازمة، ومن ثم ربطها بشبكات المراسلين ووكالات الأنباء حول العالم، وبعد ذلك إطلاقها عبر الأقمار الصناعية وشبكة الإنترنت للوصول إلى ملايين الناس، يصير هكذا بالمجان؟ لا يمكن طبعا... حسنا، وهل منكم يا ترى من يظن أنها مشاريع خيرية ينفق عليها ملايين الدولارات سنويا، من قِبل دول أو جهات أو ربما أفراد، هكذا لله وفي الله، لأجل الخير والعدل والإنسانية فقط لا غير؟ لا أظن ذلك أيضا. حسنا حسنا، ما دام الأمر كذلك، فلماذا يظهر دائما من يطالب هذه القناة أو تلك بأن تلعب دور القناة الملائكية الفاضلة، التي لا تحابي أحدا حتى لو على حساب نفسها؟!

هذه المطالبات، مع كامل الاحترام لشخوص قائليها، هي مطالبات في غاية السذاجة، وذلك لأنها  تتعامى، بإدراك أو دون إدراك عن حقيقة أنه من المستحيل أن توجد تلك القناة المحايدة تماما والتي تقف على نفس البعد والمسافة من كل الأطراف ومن جميع القضايا، حيث ليس لها أجندات ولا ولاءات، اللهم إلا الولاء للحق والفضيلة المطلقة!

ولنأخذ، لأجل هذا المقال، من قناتي "الجزيرة" و"العربية" مثلا. لا يجهل أحد أن قناة "الجزيرة" ممولة من الحكومة القطرية، كما هي قناة "العربية" ممولة من الحكومة السعودية، وبالتالي فإن التشكيك في مصداقية أي واحدة من هاتين القناتين عبر إثبات أن كل واحدة منهما لا تستطيع أبدا أن تنتقد بكل شفافية الحكومة التي تمولها، هو ضرب من السطحية بل الهشاشة في التفكير، تماما كسطحية وهشاشة تفكير من يتحدى كاتبا في صحيفة أن ينتقد ملاك الصحيفة التي يكتب فيها، بزعم أن هكذا تكون الشجاعة الأدبية، وكأن مالك الصحيفة سيقبل بهذا، أو أن الكاتب سيستمر في مكانه لو هو فعل ذلك!

مرة أخرى سأكرر الأمر الذي البدهي، فلا توجد قناة على هذه الشاكلة المحايدة مطلقا، ومن يطالب بذلك لا يملك من الموضوعية أي مقدار.

إن ما يحق لنا كمشاهدين ومتابعين أن نطالب به هو أن تكون القناة، أي قناة، مهنية تمارس العملية الإعلامية باحتراف وصدقية، وأن ننتقدها عليه في حال انعدامه. نتفهم من القناة ألا تنتقد الجهة التي تمولها، بطبيعة الحال، ولكن لا نقبل منها أن تلمع هذه الجهة بالزيف والتزوير مثلا، وهذا هو محك الاختبار الحقيقي  المتاح لنا لتقييمها وتحديد مستوى مهنيتها وموضوعيتها، وأما كونها لا تتناول هذا الموضوع أو ذاك، أو لا تمس هذه القضية أو تلك، فيجب أن ندرك أن هذا سيكون دوما خاضعا للاجتهادات والمصالح وكذلك للقيود التي قد تكون مفروضة على طواقمها، وهي التي لو حاولت ربما أن تتمرد عليها لكانت في ذلك نهايتها، وحينها ستكون كمن لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى!

معادلة الإعلام لا تقوم فقط على طرف القنوات والوسائل الإعلامية، بل تقوم كذلك على طرف المشاهد أو المتابع أو المتلقي، ولهذا فكما أن على القنوات والوسائل الإعلامية مسؤوليتها في أن تكون موضوعية مهنية بقدر ما تسمح لها الأطر التي تعمل فيها، فعلى المشاهد والمتابع والمتلقي مسؤولية الخروج من خانة الاستقبال والامتصاص من هذه الوسائل والقنوات المتنوعة بلا تمييز، وممارسة عملية الفرز والتمييز لما يتلقاه منها، كمثل أن يدرك بأن قناة "الجزيرة" لن تتناول الشأن القطري بشفافية وأريحية فلا يبحث عندها عن هذا، وأن قناة "العربية" لن تتناول الشأن السعودي أيضا بشفافية وأريحية فلا يبحث عندها عن هذا أيضا، وغيرها وغيرها، وأن يحسن على هذا الأساس انتقاء مصادر أخباره ومعلوماته وفقا للقضية التي يتابعها وللوسيلة الإعلامية التي يتعامل معها.