تجوب العالم متأبطة صحبة رفيقين دائمين مخلصين لا يتخليان عن رفقتها، فصحبتها مأواهما وملاذهما الدائم والدافئ.

Ad

يختبئان في طيات ملابسها المعدة للسفر، أو في جيوب معطف المطر، أو في ثنيات محفظتها الجلدية، أو حتى الشمسية، أو.. أو إن لم يجدا مكانا يختبئان فيه، عند ذاك يندسان في مفرق جذور شعرها أو تحت جلدها، أو يستقران في أعماقها، المكان الذي لا تستطيع أن تطالهما فيه.

لابد من صحبتهما فهو أمر لا مهرب ولا مفر منه، فكيف تهرب من نصفها المكمل لها؟

كيف تفر من دليلها وعنوانها اللذين يدلان ويشيران إليها كلما سئلا عنها؟

كيف تهرب الصفة من الموصوف بها؟

أو كيف يهرب الفعل من فاعله؟

أو يفر المكتوب من وجه صاحبه؟

لا مفر ولا مهرب ولا مناص من صحبتهما، فصحبتهما تعني ذاتها المعجونة بهما، ذاتها التي هما جوهرها وماهيتها الأزلية.

إذن هي رفقة وصحبة مرقومة وموشومة ومحسوبة من قبل الميلاد، موجودة من قبل وجودها وموسومة بهما من نطفتها الأولى السابحة في مياه خلقها الأول، تكونت وتشكلت من غير وعيها أو إذنها أو إرادتها، فالمناص لابد من حمله ومصاحبته ورفقته بتوافق النوايا واتحاد القدر، وقبول الموشوم بوشمه برضا من بات وشمه هو دليله وجوهره وصفته الموصوف بها، ونعته الذي يشير إليه بأصبع يجب أن ترى القمر الذي خلفه وليس الأصبع المشار بها.

تسير ويسيران معها في الدروب التي تعرفها واعتادت عليها، وتلك التي لا تعرفها وتكتشفها معهما للوهلة الأولى.

يرافقانها في الأمكنة المجهولة التي تطرقها خطواتها من دون أدنى خوف أو أي رهبة، فهي في صحبتهما لا تخاف المخبأ والمجهول، فهما من يدفعانها لفض خوف كل غامض وكل سري منطو على سر معرفة مثيرة ومبهجة.

تمضي في دروبها المختلفة، تصعد فيها إلى الكهوف البعيدة المنطوية في بطن الجبل، الملفوفة بحبل صرتها وبأسرار وحكايات من عاش فيها.

تتلبسها حياة من كانوا فيها، تشعر بروحها تتقمص أدوارهم في دقات الساعة الزمنية التي ليست إلا برهة أو ثانية أو دقيقة عابرة فيها.

تمضي في زمنها عابرة لحظاته أو ثوانيه برفقتهما التي لا ينفضان عنها، يلحقان بها حيث تمضي في فض سر الغابات الساكنة في حفيف الأوراق المتساقطة في أوان الهواء الذي أسقطها من جذور عمرها الآفل.

تسير معهما في طريق الغابة الصاعد إلى نبع أليشكا المتدفق بسر الحياة الأبدية.

تخوض قدماها في موج الأوراق التي أسقطها خريف سبتمبر.

تدوس على «خرفشة» الحياة اليابسة وتستمر في صعودها إلى رأس النبع، ولا تنسى للحظة ما أنهما في صحبتها كالعادة لم يفارقانها منذ ميلادها وإلى لحظتها الراهنة، فهما مثلها يحملان الفضول ويعشقان المعرفة وفض سر الملفوف والمدفون في بطن غامضة.

أخيراً يصلون إلى رأس النبع المتدفق في مياه أزلية لا يعلم سرها إلا الله الذي خلقها وبارك فيها وجعلها شفاء وسقاية لكل من ساقته علته إليها.

تشرب من مائها المج المركز في المعادن والكربون، تدعوهما للشرب منها، تكتشف أنهما قد سبقاها إلى تذوق المياه المتدفقة بكرم العطاء الأزلي الوهاب من دون تحيز أو تميز أو تفرقة.

تحتسي الماء مع المحتسين الذين ساروا على هذا الدرب ذاته من طفولتهم وحتى صباهم ومراهقتهم وشبابهم وكهولتهم، مشوا فيه أطفالا وعشاقا وعجائز.

الدرب هو ذاته الذي حملهم في أزمنتهم المختلفة، يرون فيه كل حياتهم المطوية في سر هذه الغابات المتسربلة بصمت أزلي خالد، وبهذه المياه المتدفقة عبر أزمنتهم كلها التي انسلخت عنهم، وبذات الدرب الصاعد بهم إليها.

مرآتهم دائمة وثابتة وأزلية، تحمل ديمومة لذاكرة لن تغيب في أمكنة حملت ثبات وجود لا يتغير، يعرفون ذاكرتهم فيها، يعرفون بعضهم البعض، يتحدثون، يضحكون بصحبة رفقة تبادلهم الضجيج في صحبة حية إنسانية.

تنظر إليهم باستمتاع لا تغبطهم بل تسعد بسعادتهم وتبدأ في خطوات العودة بالنزول إلى المدينة برفقة صاحبيها الدائمين الملتصقين والوفيين، الوحدة والكتابة لتمضي في زمن بات لا يرهبها فقد تصاحبت معه ومع كونها فيه ذرة من مكوناته ومن ديمومته، هي وكتابتها ووحدتها وصحبتهما لها التي باتت كنقش وصورة.