قال الجاحظ عن فضل الكتاب: "الكتاب نِعْم الذخر والعدة، ونِعْم الجليس والقعدة، ونعم النشرة والنزهة، ونعم المشتغل والحرفة، ونعم الأنيس ساعة الوحدة، ونعم المعرفة ببلاد الغربة...". فأسهب الجاحظ في الثناء على فضل الكتاب. وأنا أتجول بين صفحات الكتب باحثاً عن كل ما يثري جعبتي، إذ جلست بين أروقتها، فإذا بكتاب ثمين زاخر بالدرر للأديب فاضل خلف "الحقيبة الأدبية"، الذي وفّق في هذه الحقيبة، وقطف من كل بستان زهرة، فأهدى الكتاب في البداية إلى معلميه وأساتذته، وهذا من الفضائل، والأمانة الأدبية والعلمية والأخلاقية، بدءا من سيرته الذاتيه الفخمة. استهل الكتاب بالشعر الحديث، وذكر أن الشعر فن، والفن جمال، كما تطرق إلى المستوى اللغوي، وذكر أن لغة الشعر هي المجازية الانفعالية المشعة من المرادف التخيلي للكلمات، وانتقل إلى الاتجاه الأسطوري، وذكر أن الأسطورة هي بديل الاستعارة التقليدية، ولها في حياة الإنسان وظائف أهمها:
محاولة استجلاء غموض الظواهر الكونية بأسلوب أخلاقي أو روحي، وارتباط حلم الإنسان بوظيفتها النفسية والإشارة إلى تجاربه ومخاوفه وآماله، كا أن لها شبه منطقية في تفسيرها القصصي عن أساليب تعايش الإنسان اليومية، وهذا من مبدأ استعمار الإنسان للأرض، ولكنها استعمرت داخله، فبدت النفوس تجنح إلى الأسمار وتطمئن إليها باعتبارها أحد المنابع اللاشعورية التي ينهل منها الفنان.ففي أعمق مناطق اللاشعور تكمن صور يشترك فيها الجنس البشري، وهي في أصلها ترجع إلى أقدم عهود الإنسانية، ويسميها "يونغ" النماذج العليا، وهي نماذج وراثية من عهود الإنسانية الأولى، وهي مصدر كثير من الخيالات والصور الخاصة بالجن والأرواح والسحرة، وهي صور تغذي الفن والشعر وتنعكس في المنطقة العليا من الفكر، وفيها تتجلى آثار غريزية اجتماعية عامة تتأثر بها الإنسانية كلها وتستجيب لها.كما تطرق إلى الأسطورة في قصائد الشاعر المبدع بدر شاكر السياب، ومنها أسطورة "عشتار" التي تداولها السياب في إحدى قصائده، عشتار آلهة الخصب والحبيبة القادرة على تجديد شباب الوجود وصنع الحياة، وهي كوكب الزهرة الذي لفت بتألقه وشدة بريقه وجماله نظر الإنسان القديم في شتى البقاع التي نشأت فيها الحضارات القديمة، فيعده أهل الحضارات رمزاً للجمال الأنثوي الكامل، فهي في بابل وآشور، الربة "عشتار".وعشتار في الحضاره الكنعانية لؤلؤة خلقت في محارة وجدوها قادمة على الثبج، وهو تموز قرين عشتار في بابل، إذ كان يقال له "أدون" بمعنى السيد تعظيماً، وزاد عليه اليونان لازمة الاسم لديهم، وعومل معاملة العلم بعد أن كان لقب التموز. كما تطرق الأستاذ فاضل خلف إلى أسطورة أخرى في قصيدة السياب وهي "سيزيف" اليونانية الأصل والتي تدل على عبث جهود الإنسان بالدنيا، فسيزيف محكوم عليه بدفع صخرة إلى قمة جبل، فإذا بلغ القمة تدحرجت إلى أسفل، فيستأنف دفع الصخرة ليحدث ما حدث سابقاً، وهكذا إلى الأبد، ولكنها من ناحية أخرى رمز على التصميم والمثابرة وعدم اليأس.يرجع هذا التنوع من الثقافات لدى أديبنا فاضل خلف كونه دبلوماسيا سابقا، وحط رحاله في كثير من الدول بطبيعة عمله، وأيضاً كونه شغوفا للمعرفة والاطلاع، ومحبا للأدب، فتكونت لديه العديد من الثقافات والمعارف التي قد لا يملكها الكثير من الدبلوماسيين.
مقالات
الحقيبة الأدبية
03-12-2011