عندما شاهدتُ مسرحية بريخت «الإنسان الطيب» للمرة الأولى في مدينة مالمو السويدية، أدركتُ أنه يحفر في الروح الإنسانية بحثاً عن النقاء والطيبة كما يمكن أن تتجلى في البشر، وإذا كانت موضوعة الخير والشر موضوعة قديمة وجدلية منذ الأزل فإن بريخت يكشف عن خديعة وقسوة الإنسان في تمظهراته المختلفة. المسرحية عرضت في قاعة مسرح «الهيب» الشهير، وهو مسرح عريق يعود بناؤه إلى حوالي 1891. في المسرحية يهبط الحكماء الثلاثة إلى المدينة، وفي الأصل هي مدينة ستيسوان الصينية لكنها قد تكون أية مدينة أخرى في العالم، يهبط الحكماء إذن بحثاً عن الإنسان الطيب. يلتقي الحكماء بالسقاء الذي يبتهل إلى السماء بانقطاع المطر، ليربح من بيع الماء للناس. والسقاء شخصية لا تكف عن الغش والتحايل، ولأن الحكماء بعد تجوال مرهق يرغبون في المبيت ليلة واحدة في هذه المدينة، يقوم السقاء بدور الدليل فيرشدهم إلى المومس «شن تي» التي تعيش وحدها. توافق شن تي على استضافتهم ليلة واحدة فيكتشفون ملامح الإنسان الطيب عندها. رغم أنها تبيع جسدها من أجل العيش. يكافئها الحكماء بمبلغ وافر من المال فتستأجر محلاً لبيع التبغ، ولأن الناس في المدينة محكومون بالجشع والأنانية تتعرض شن تي للخديعة والسرقة والاستغلال، حتى انها تنقذ شاباً من الانتحار فيدعي أنه وقع في حبها ويرغب في الزواج منها، لكنها تكتشف في النهاية أنه مخادع، مصلحته الأساسية في الحصول على المال، هكذا تكتشف شن تي الناس على حقيقتهم المزيفة، فتلجأ إلى حيلة غريبة، إذ تتنكر بملابس رجالية بشخصية (شان تي) وتوهم الناس بأنها ابن العم الذي يدافع عن حقوق ابنة عمه، وهي شخصية قوية ومتسلطة، وتستمر في لعب شخصية الرجل حتى يكتشف الناس اختفاء ابنة العم لشهور عديدة، فيتهم بقتلها، ويساق إلى المحاكمة أمام الحكماء الثلاثة، ليفاجأوا بأنها هي نفسها المومس التي تنكرت لحماية نفسها من عالم قاس لا يرحم، تنتهي المسرحية بعودة الحكماء الثلاثة إلى السماء ويترك بريخت السؤال مفتوحاً حول معنى الإنسان الطيب.

Ad

هذه هي باختصار فكرة مسرحية بريخت (الإنسان الطيب في ستيسوان).

لقد قدم المخرج السويدي توماس مولر هذه المسرحية مستخدماً عناصر من فن الكاباريه، وتوزيع أدوار الرواة على أكثر من ممثل، والاستعانة بصوت الممثلة (إرما شولتز) بطلة المسرحية، في تصعيدات غنائية غاية في الرقة والشفافية. هذا بالإضافة إلى كسر الإيهام، على نحو مباشر وهو ما يمتاز به مسرح بريخت عموماً. وقد استطاعت الممثلة السويدية إرما شولتز، أن تلعب دورها بمهارة تصعيدية عالية، وهو دور صعب ومركب وغالباً ما تتحاشاه كبار الممثلات.

ويبدو أن الانعكاسات السياسية للوضع في العالم والحروب المتتالية تحت ذرائع مختلفة دفعت المخرج إلى الإشارة ولو رمزياً إلى حوار الأديان والحضارات بحيث جعل كل من أحد الحكماء الثلاثة، مسلماً ومسيحياً وبوذياً. ينبغي الإشارة هنا إلى أن مسرحية بريخت هذه قد قدمت في العالم العربي أكثر من مرة، آخرها من إخراج المسرحي العراقي عوني كومي، وبطولة الفنانة اثمار عباس مع طاقم من كبار المسرحيين العراقيين، من ضمنهم يوسف العاني الذي لعب دور السقاء، وخليل شوقي وسامي عبدالحميد وجعفر السعدي.