اختار عبدالعزيز البابطين أن يسمي مشروعه الثقافي باسم (جائزة عبدالعزيز البابطين للإبداع الشعري)، وهي تسمية أراها ليست (جامعة مانعة) كما يقول اللغويون. إذ يتبادر إلى ذهن المتلقي أن مشروع الرجل الثقافي ينحصر في مسألة وحيدة، وهي منح جوائز سنوية أو موسمية للشعراء المجيدين أو للشعر الفائق في جودته وإبداعه. وهذا الاختصار لجهود المؤسسة الذي يُفهم من هذه التسمية قد يبدو مجحفاً وغير حقيقي.

Ad

إن المتابع لإنجازات مؤسسة البابطين الثقافية يعلم أن للمشروع الثقافي أذرعة متشعبة وأجنحة محلقة في كل اتجاه. وإن كانت رعاية المؤتمرات العلمية وعقد الملتقيات الثقافية هي الجزء الظاهر والمتداول من المشهد، فإن للمشهد وجوهاً أخرى أكثر تأثيراً وألقاً. فمن بناء المدارس وتخصيص المنح لطلبة العلم إلى الاضطلاع بطباعة الكتب ونشرها، ومن تأسيس مكتبة رائدة إلى إنشاء مركز طليعي للترجمة والنشر، ومن بناء مركز عالمي لحوار الحضارات إلى تأسيس مركز علمي لتحقيق المخطوطات، ناهيك عما لا نعلم من إسهامات الرجل، وعما لا تعلم شماله ما أحسنت يمينه.

من يستقرئ سيرة عبدالعزيز البابطين الحياتية، قد يعجب بعصاميته اللافتة وابتدائه الطريق من حيث يبتدئ الفقراء والمتعففون والصابرون على مشقة الصعود المتدرّج، والمؤمنون بذواتهم وأهدافهم. وحين وصل بإصراره وصبره وجهده اقتسم ما أفاء الله عليه من نعمة مع الآخرين من الأباعد والأقارب. لكنه ظل على حالٍ من البساطة والتواضع، وكأنه لايزال ذلك الفتى الذي يقود دراجته الهوائية متنقلاً بين دكاكين حولي، ودشداشته تخفق في الريح.

لسنا هنا بصدد تعداد مآثر الرجل وأياديه البيضاء في الكويت وخارجها، فهذا مما لا تسمح به هذه العجالة، ولكن ما يلفت الانتباه في شخصية عبدالعزيز البابطين هو مسألة انفتاحه وسعة أفقه ونظرته الشاملة للثقافة الإنسانية. وبهذا القلب المفتوح على آفاق الأجناس والثقافات والأديان استعان على بلورة توجهاته المتسامحة في عصر كثر فيه التحزّب والاصطفاف والتخندق وراء الملة والعرق والتوجه السياسي. الأمر الذي سهّل على رجل طليعي في مجال الثقافة الإنسانية مثله، أن يقدم خدماته ومساهماته بأكثر الطرق تسامحاً وأريحية. فسهُلت أمامه المعوقات وانفرجت السبل في شتى بقاع العالم، على ما في العالم وبقاعه من تعقيد ومخاطر في العلاقات والتواصل.

قد يكون للمال دور أساسي في هذا المجال، فالمال عصب الحياة ووقود التنمية. ولكن أن يكون وراء المال عقل مدبّر وهدف كبير ورسالة إنسانية راقية، تلك هي المسألة. وقد استطاع عبدالعزيز البابطين بحق أن يحقق هذه المعادلة الصعبة بكل دقة وإتقان.

مضى حين من الدهر والصورة النمطية للإنسان في منطقة الخليج العربي يشوبها الكثير من التشويه والإجحاف. وهذه الصورة السلبية الظالمة كانت تتراءى وتترسّخ – للأسف - في الكثير من أدبيات إخواننا في العروبة. فالمال والثروة في مواطن النفط غدت سبة وعاراً، وحين يُشتم الأثرياء منا فأقصر الطرق إلى ذلك هو الحديث عن تبديد ثرواتهم على طاولات القمار أو تحت أرجل العاهرات! نقرأ ذلك في أشعارهم وكتبهم ومقالاتهم الضاربة في الجهل وقلة التهذيب ونكران الجميل والعقوق. وكلما ازدادوا تعسفاً وجهلاً بمعادننا ازددنا إحساناً وكظماً للغيظ. وإذ نقدم في هذا المقال نموذجاً باهراً لتوظيف المال في سبيل التنمية البشرية وتهيئة سبل المعرفة وترسيخ ثقافة التسامح والتعايش، فإننا على يقين بأن ثمرات هذه الجهود المخلصة ستساهم في النهاية في تصحيح الكثير من المفاهيم المغلوطة عن الإنسان والثروة في منطقتنا.

وكما تم تنميط الإنسان الخليجي في تلك الصورة المجحفة، فإن مقولات أخرى مغلوطة لاتزال تُتداول مثل مصطلحات "المراكز" و"الأطراف"، في الإشارة إلى أن "المراكز" هي مهد الأصالة والابتكار والموطن الحقيقي للمؤسسات الثقافية والأدبية وللآباء الروحيين الذين يقفون وراءها. أما الأطراف فليست إلا توابع وأطيافاً باهتة تسير خلف الركب. وأعتقد أنه لا يمكن تغيير مثل هذه الانطباعات السلبية عن منطقتنا إلا بالعمل الدؤوب والإنجازات الملموسة، وقبل ذلك بالقلوب المؤمنة بإمكانية تغيير العقول والأفكار. إن وجود مؤسسة ثقافية رائدة تنطلق من بلادنا كمؤسسة البابطين هو لا شك أحد معالم الطريق نحو هذا التغيير.