أثقال
بالتأكيد هناك أمل، ولكنه أمل مترهل، يحتاج إلى رياضة حتى يقوى ويعود إلى شبابه، هناك أمل في أن تتفهم الشعوب العربية في يوم المعنى الحقيقي للحرية، أن تستوعب أن مطالبها الأساسية من عيش كريم وضرورات حياتية رئيسة وأمن وأمان كلها تأتي في سلة واحدة مع الحريات، وأن المجتمع المحروم من الحرية محروم كذلك من الأساسيات الحياتية. والقبول بمنطق الحرية، اسم الدلع للفكر الفلسفي الليبرالي، هو فعل صعيب، يحتاج إلى جهد وجد وتدريب، ويتطلب ساعات من الاجتهاد في نادي الفكر الرياضي، وأياما من رفع الأثقال حتى تتدرب عضلة القبول ويشتد عودها وتقوى مرونتها. من أهم نوادي تدريب عضلة القبول حالياً عندنا هو نادي «تويتر»، فعضويته مفتوحة، حتى لتظن أنك تحج إلكترونياً، فكل المغردين يلبسون ذات الثوب الإلكتروني، غني وفقير، قوي وضعيف، رجل وامرأة كلهم كتفاً بكتف على صفحات «تويتر» يتحاورون ويتشاكسون، وأحياناً ويمكن كثيراً يتشاتمون.
و«تويتر» نادٍ قاس، وكم كان صبري ضعيفاً إلى أن دخلته، أنزلني «تويتر» من عليائي التي لا أستحقها، من صفحات الكتب الأكاديمية والأصحاب المخمليين علمياً، إلى الشارع الطبيعي، حيث السجية، و»كل ما يعرف يقال»، و«اللي في قلبي على لساني». دربني «تويتر» تدريبا قاسيا جداً، فاختبر إخلاصي لمبدأ الليبرالية، الذي طالما ناديت به، كل ساعة من كل يوم، فكلما وصلت رسالة ساخرة، قاذعة، مهينة، مريضة، عصابية، وحتى فاحشة، أخذت نفساً عميقاً، ووضعت كفي على قلبي أهدهده أن تلك لحظة الحق، فهل أنت يا قلب مؤمن بالحرية أم منظّر لها؟ أتكور على كرسي مكتبي وأذكّر نفسي، كل هذه الرسائل المؤذية هي ثمن تدفعينه من أجل مبدأ تسوقينه، ومن سيشتري سلعتك إن كنت أنتِ أساساً غير راغبة فيها؟ تراودني رغبة كبيرة في أن توضع حدود تحميني وتحفظ لي جريان دمي بانتظام في عروقي، وتصادفني عقبتان: أولاهما أننا في عصر التكنولوجيا التي يمكنها أن تخلط السبعة مليارات إنسان في جهاز بحجم كف اليد، فمن الأفضل أن تكون تمنياتي أكثر واقعية، وثانيتهما أن أي محاولة لوضع الحدود ستفترس مبدأ الحرية الذي أغني به منذ أمد، وكم ستكون أغنية باهتة لو أنني بقيت أغنيها ثم أحجر على غيري أن يرددها. وأذكّر نفسي بحارة الأمان الدائمة على طرف حياتنا المدنية والمتمثلة بالقضاء الذي يمكن اللجوء إليه إذا ما خرج القول عن نطاق الرأي، وبعد أن أذكّر نفسي بالعقبات، أطيبها بالفوائد، فـ«تويتر» ملعب كرة قدم ضخم، كلنا نركض فيه ولن يبقى في الملعب إلا اللائق فكرياً والقوي قلبياً. يقدم «تويتر» التمرين الأفضل، وبلا شك الأقسى، لهضم فكرة الحرية، وهو يضع حاجز الجهاز الإلكتروني بين المتدربين، حتى يبقى العنف لفظياً فقط، إلى أن ينهدّ حيل كل اللاعبين، تتمرن عقولهم وتشتد سواعد أفكارهم حتى لتتضاءل أمامها الإهانة، ويهون الأذى، ويطيب القلب أمام مساحة الحرية الخلابة التي لا يريد أي منا أن يفقدها، فتجدنا نتحمل دونها كل ما يمكن أن يصيبنا، ونحن مدركون أن مصابنا الأعظم ليس مسبة هنا أو نقدا هناك، ولكن فقدان الحرية التي لم نعد نستطيع التنازل عنها. منذ أن لبست «الفانيلة» ونزلت ملعب «تويتر» وأنا ألهث أحياناً تعباً وأحايين إعجاباً وسعادة. اكتشفت أناساً كثيرين على «تويتر»، وأعدت اكتشاف أناس آخرين، وتبين لي الخيط الأبيض من الأسود، ثم تبين لي أن البياض والسواد هما مجرد رأي من عين غير موضوعية هي عيني، وأن ما أراه سواداً قد يراه جاري «التويتري» بياضاً ناصعاً، فأتعلم درساً مركباً ناصع التشويش. والأهم أنني أعدت اكتشاف نفسي، كم من أشياء أجهل، كم من أناس متغربة أنا عنهم، كم تبدو لي حياتي أحياناً غارقة في السطحية وأحايين سابحة في «الاتجاه المخالف». آراء وأقوال وعلماء وفقهاء في كل شأن، بشر وصور وقصص، شعر وغناء وأسفار، ألم وسعادة ولامبالاة ومحبة، كلها ها هنا في قلب مساحة التغريد، أسبح في لجتها كل يوم، وأكبر في اليوم ألف يوم، وتتسع مساحة معارفي وتتضخم حقيقة جهلي وتتسارع وتيرة رغبتي في أن أزيل هذا الجهل... ألف مرة في اليوم. فإن أردت أن تتمرن تمريناً قاسياً لا هوادة فيه، وإن أردت أن تعيش ألف حياة فوق حياتك، وتتعرف على أناس لم تتسع حيوات أجيال لها من قبلك فدونك «تويتر»، سريعاً، قبل أن نملّه وننتقل إلى غيره.