صمت

نشر في 23-02-2012
آخر تحديث 23-02-2012 | 00:00
 فوزي كريم تركت لندن لمدة شهر، وحين عدت انقطعت عن الخروج بفعل موجة البرد التى ضيّقت الخناق على المدينة. هناك أكثر من معرض ضخم أُمنّي النفس منذ فترة برؤيته. وما إن خف البرد على الناس حتى سارعت إلى متحف «تيْت غاليري» لرؤية معرض لا تخفى أهميته من عنوانه: «بيكاسو والفن البريطاني الحديث». بيكاسو الذي أملى على الفن الغربي إرادته الفنية المجددة بصورة غاية في الإثارة، والفن البريطاني الذي اتسم حينها بالمحافظة والتزمت. المعرض يُعنى بالحكاية من أولها، مطلع القرن العشرين، حين غادر بيكاسو برشلونة في الثامنة عشرة من العمر، ساعياً إلى عاصمة الفن (باريس).

الرواية تقول إن بيكاسو، أول الأمر، كان ينوي الذهاب إلى لندن للإقامة، بفعل تأثير الميل العائلي إلى الطراز الإنكليزي. حتى أن أباه كان يتمتع بلقب «الإنكليزي». إلا أن رياح القدر دفعت به إلى باريس، وكأن المدينة التي كانت لا تهدأ في سعيها التجريبي باتجاه الجديد كانت تنتظر إرادة فنية تأخذ قياد الفرس الجامح إلى منتهاه. وهذا ما حدث عام 1900.

إن موجة الادهاش الفني التي أثارتها موهبة بيكاسو بقدر ما كانت إيجابية في باريس كانت سلبية في انكلترا. وحين حاول تجريب الذائقة الانكليزية شارك ببضع لوحات في معرض أقيم في لندن عام 1910، تحت عنوان «مانيه وما بعد الانطباعية». إلا أن لوحاته المشاركة واجهت موجة من الاستياء وردود الأفعال بالغة القسوة، من قبل نقاد الصحافة ومن قبل الجمهور على حد سواء. لم يترفع بعضهم عن وصف اللوحات بالعفونة والإباحية والتلوث. حتى أن الذي غامر واشترى لوحة من لوحاته فعل ذلك بدافع إحساسه بأن لوحة بيكاسو «بالغة السهولة والبساطة». وهو رأي يعكس النظرة السطحية في قراءة الفن الحديث.

الروائي «إيفلاينوَو»، وكان في شبابه المبكر، وقّع إحدى رسائله بـ»الموت لبيكاسو»، السياسي الداهية «تشرشل»، وقد كان يمارس الرسم الواقعي وقت الفراغ، قال بالمناسبة إنه «يود لو يرك لمأخرة بيكاسو...»، والكاتب الانكليزي «تشيسترتون» كتب يصف تخطيطات بيكاسو بأنها قطعة من الورق شاء بيكاسو لسوء حظه أن يُفسد الحبر فوقها محاولاً تنشيفه بحذائه». هذا الموقف المعادي ظل يراوح على حاله حتى عام 1949، حين اشترى متحف «التيْت غاليري» أول لوحة لبيكاسو.

بعد معرض «مانيه وما بعد الانطباعية» أتيح لبيكاسو أن يزور لندن مع فرقة الباليه الروسية تحت قيادة «دياغليف»، لتصميم ديكور وأزياء عمل باليه للموسيقي الروسي «سترافنسكي»، كانت نماذجها موجودة كاملة في المعرض. إلى هنا لم نجد لبيكاسو أثراً في الفن الانكليزي. مهمة المعرض الآن أن يكشف عن هذا التأثير الكبير منذ منتصف القرن الماضي.

المعرض في قاعاته العشر يضع في الصدارة ثلاثة فنانين صرفوا انتباهاً وافياً لفن بيكاسو دون أن يفقدوا هويتهم الخاصة: وِندهايم لويس، فرانسيس بيكون وديفيد هوكني. إلى جانبهم خمسة فنانين آخرين تأثروا بصورة كبيرة، حتى كاد ذلك يلاشي هويتهم الفنية. منهم على سبيل المثال هنري مور، الذي كان في حياته يتجنب الإشارة إلى بيكاسو وذكر اسمه. ولقد وضع المعرض متعمداً احد أعماله الخشبية والتي بعنوان «المستلقية» إلى جانب عمل نحتي لبيكاسو، ليظهر مقدار المحاكاة الواضحة.

من أبرز المحاكين الفنان «نيكلسون»، المجايل لبيكاسو، كانت لوحاته بالغة التأثر حتى أنه في حياته كان يُلقب بـ «بسّي».

المعرض يضم 150 لوحة نصفها لبيكاسو. والحصة المؤثرة الباقية تتوزع بين فنانين بريطانيين كبار. كل منهم له ثقله، وعناصر الجمال في لوحته تحتاج من المشاهد تركيزاً خاصاً. الفنان فرانسيس بيكون، على سبيل المثال، تُعرض له لأول مرة سبع لوحات كانت قد بقيت سالمة من مجموع تسع لوحات سعى بيكون لتمزيقها قبل عام 1944. كان بيكون قبل تلك السنة يعتبر نفسه مصمم ديكور داخلي، ثم صار يكتشف فنان اللوحة فيه بعد رؤية أعمال بيكاسو في باريس في عشرينيات ذلك القرن. ورغم تأثره العميق به إلا أن ثقل الألم والرؤى الضخمة في عمله هما اللذان حفظا له هويته الخاصة.

back to top