رطانة!
سألني صديق: «هل أفهم من كلامك أنه ليس من حق المثقف البحريني، مثلاً، أن يبدي أي شكل من أشكال الفضول المعرفي إزاء دريدا؟ وبالتالي سيكون من العبث أن ينصرف المغاربة أيضا إلى قراءة سوزان برنار ومحاولة الاطلاع على مجهودها التنظيري بخصوص قصيدة النثر؟» أجبته: الفضول أحد أهم دوافع المعرفة، ولا أحسب أنك تعتقد، على خلاف ما أعتقده أنا، بأن المثقف البحريني ذهب إلى دريدا والتفكيكية بدافع الفضول. وأن الصدفة وحدها أيقظت كل هذا الفضول العربي، من الخليج إلى المغرب، باتجاه البنيوية والتفكيكية، ودريدا؟
الفضول، في المناخ الثقافي الصحي، واسع رحب، نحن نجهل التيارات النقدية الغربية، في مراحل نضجها، منذ القرن التاسع عشر، حتى السنوات الأخيرة المتزاحمة. وأحرى بالفضول العربي الذي تشير إليه أن يتسع لكل تلك التيارات النقدية ولكل هؤلاء النقاد. فلم اقتصر اتساعه على هذا الأفق الضيق؟ مع العلم أنك لم تترك فسحة في تساؤلك للتعميات اللفظية التي أشرتُ إليها أنا. إنني أعجب من هذا الهوس بالاهتمام بكتابات دريدا، وهو مصدر شكوى في لغته، وفي اللغة الانكليزية؟ مع أن هاتين اللغتين ألصق بحضارة الغرب من العربية، التي لم تجرؤ حتى اليوم على ترجمة واحد من المصطلحات النقدية الغربية، وباتفاق عربي عام. السبب ببساطة لا يكمن في اجتهادات المترجمين، بل في أن هذا المصطلح لا قاعدة ثقافية ونقدية له في العربية. تعميات دريدا في الفرنسية والانكليزية محيرة، ولكنها في العربية مضحكة. لأنها تريد للكلمة أفقاً لانهائي الدلالة، داخل حياة عربية تبدأ خطوتها الأولى، وبشق الأنفس، في تعزيز الدلالة وتحديدها. المثقف العربي يستهويه اللعب دون استشعار المخاطر. ألم يلعب قبل ذلك مع كل تنويعات الثورة الفلاحية، والبروليتارية، والطلابية، حيث لا زراعة مقننة، ولا معامل إنتاج، ولا جامعات! فقط لأن هذه الكلمات استهوته في الفكر الغربي، عبأها بعواطفه المضطربة، ثم ألقاها في سوق الفعل السياسي، فتحولت إلى ثعابين. طبعاً الثعابين قتلت الناس ولم تقتله هو! إن كل كتاب قصيدة النثر العربية لا تعنيهم الدوافع التي تقف وراء الشاعر الفرنسي، حتى لو صرّحت بها برنار. ولا تهمهم حقيقة أن كتّاب هذه القصيدة في الإنكليزية قلة تماماً. المهم أن هذه القصيدة العربية الجديدة أفلتت زمام الخيول من يد الشاعر، وألقت عنه أعباء القوانين حتى الأولية، باتجاه متاهة الحرية داخل غاب الثقافة الفقيرة. في ختام إجابتي عن سؤالك الأخير أرجو أن تصرف وقتاً نافعاً وممتعاً مع وعي المثقف العربي لتجليات دريدا، ومحاولة الاقتراب من ناره، في هذا الشاهد (المقطع أخذته عفو الخاطر، إذ لا فرق بينه وبين سواه على كل حال!): «... ويلاحظ دريدا أن الميتافيزيقا قامت باستبعاد اللاحضور من خلال تعريفها للمكمل بأنه مجرد عنصر خارجي بسيط أي إضافة خالصة أو غياب خالص، فكما يضاف الكلام إلى الحضور الحدسي إلى الوجود إلى الجوهر، فكذلك تضاف الكتابة إلى الكلام الحي الحاضر، كما تأتي الثقافة لتضاف إلى الطبيعة وهكذا لا يكون «المكمل» شيئاً على الإطلاق، فهو محض زيادة خارجية أو جسم طفيلي يُضاف إلى حضور جوهري ممتلئ. غير أن التناقض يكمن في أنه في الوقت الذي يعتبر المكمل محض إضافة تكميلية لأصل ما، إلا أن الحاصل هو أن الأصل لا يوجد ولا يتميّز ولا يكتسب حضوره إلا بفضل المكمل هذا، فروسو الذي يعالج الكتابة كزيادة تكميلية على الكلام، يرتد في مواضع ليعالج الكتابة بوصفها ما يكمّل أو يسد نقصاً حاصلاً في الكلام. ومن هنا يخلص دريدا إلى القول بأن مفهوم الأصل ليس إلا أسطورة الإضافة أو الإكمال، إنه أسطورة محو الأثر وإلغاء الإرجاء الأصلي، فالحضور الأصلي ليس بحضور ولا غياب، بل هو الإكمال بوصفه بنية، أو هو منطق الإكمال والإضافة الذي اكتشفه دريدا في أعمال روسو، والذي يتلخص في أن الشيء المضاف إليه (الكلام والطبيعة مثلاً) بحاجة إلى المضاف أو المكمّل، لأن الاثنين يمتلكان الخصائص ذاتها التي كان يعتقد أنها من خصائص المكمّل أو الملحق فقط».