مرّ على المرأة القطرية حين من الدهر لم تكن تحظى بكثير من الحقوق التي تمارسها اليوم بحرية في المجتمع، كانت محرومة من الإسهام في تنمية وطنها، ممنوعة من أي مشاركة عامة، محظور عليها أن تجلس خلف مقود السيارة بينما غير القطريات يقدن من غير نكير، كانت محجوبة عن الوظائف القيادية، محرم عليها الاقتراب من أي مجال مختلط، لا تظهر صورتها في الصحف والمجلات والإعلام المرئي، كانت تتكلم من وراء حجاب وتعمل من وراء ستار معلمة لبنات جنسها في مدارس يحظر على الرجال الاقتراب منها.

Ad

كان المجتمع القطري وبتأثير من الثقافة السلفية يقيم سدوداً عالية وحواجز منيعة بين الجنسين حماية للمرأة من شرور الاختلاط، كان الاختلاط "تابو" محظور الاقتراب منه، وكلمة الاختلاط مذمومة ومستهجنة مجتمعياً، وكان لقاضي القضاة الشيخ عبدالله بن زيد آل محمود، رحمه الله تعالى، كتيب ذائع الصيت عنوانه "رسالة الخليج في منع الاختلاط وما ينجم عنه من مساوئ الأخلاق" يحذر من الاختلاط ويشدد النكير على من يرتضيه.

كانت المرأة القطرية تعيش وضعية غير منصفة تعاني حقوقاً مهضومة ومواطنة منتقصة وتشريعات تمييزية متسلطة، مبعدة عن تنمية مجتمعها إلا في نطاق محدود، لم يكن هناك قانون للأسرة يحمي المرأة من نزوات الرجل الذي قد يرميها في الشارع لأدنى هفوة، لم تكن هناك مؤسسة اجتماعية تعنى بحماية المرأة من العنف الأسري ومن التمييز التشريعي، كان مصير المرأة معلقاً باجتهاد القاضي وموقفه الاجتماعي ونظرته إلى المرأة.

في هذا المناخ الاجتماعي المتوجس من خروج المرأة واختلاطها، عدت إلى البلاد لأُدرّس بكلية الشريعة بجامعة قطر حاملاً الدكتوراه من الأزهر الشريف في موضوع حيوي وحساس "الشورى والديمقراطية" يناير 1980، تناولت في الرسالة حقوق الإنسان خصوصاً حقوق المرأة السياسية والاجتماعية، كنت شاباً متحمساً للإصلاح الاجتماعي تواقاً لتصحيح وضعية المرأة في المجتمع، في إطار من تعاليم الدين لا التقاليد.

كانت أول مواجهة لي بالمجتمع القطري حين ألقيت محاضرة عامة عن "حقوق المرأة في الإسلام" مارس 1981 بقاعة "الأنكس" بجامعة قطر القديمة، انتقدت الأوضاع الاجتماعية الحاكمة لحركة المرأة وبينت الحقوق الشرعية لها من وجهة نظر إسلامية منفتحة تساوي بين الجنسين في الحقوق والواجبات: في التعليم والعمل والوظائف العامة والمناصب القيادية؛ كالوزارة والقضاء وعضوية مجلس الشورى، وتساءلت: "ربما يقول البعض إن ممارسة المرأة لهذه الحقوق تستلزم أن تختلط بالرجال، وسيؤدي ذلك إلى أضرار اجتماعية"، فأجبت: "بأن المرأة المسلمة ساهمت في الحياة العامة وكانت تختلط بالرجال وتشارك في الحياة الاجتماعية في الجاهلية وفي صدر الإسلام، ولم يعرف نظام الفصل بين الجنسين إلا في العصر العباسي بتأثير من الحضارتين الرومانية والفارسية، ولم يستلزم من ممارسة المرأة لحقوقها أضراراً اجتماعية ولا مخالفة لآداب الإسلام"، ثم أضفت: "لذلك نقول إنه من الممكن أن تمارس المرأة جميع حقوقها في حدود القواعد الشرعية المقررة، وان الالتقاء بين الجنسين جائز في ميادين العبادة والعلم والعمل والجهاد، مع الالتزام بالآداب الإسلامية، وان الممنوع هو التزاحم والتبرج والتبذل والخلوة".

ويبدو أن هذه المقولة الأخيرة هي التي ألهبت نيران الغضب لدى المؤسسة الدينية التي رأت في المحاضرة دعوة إلى فتح باب الاختلاط، فقامت بشحن المجتمع ضدي عبر منابر الجمعة والكتيبات التي تصدت للرد على المحاضرة ومن أشهرها: "الرد السديد في بيان بطلان محاضرة عبدالحميد" لقاضي القضاة رحمه الله تعالى، وهو منشور على موقعه الإلكتروني لمن أراد الرجوع إليه، وكتيب آخر للشيخ أحمد بن حجر، رحمه الله تعالى- ليتني أذكر اسمه وليت من يسعفني به- الخلاصة أن المشايخ باعتبارهم حماة الدين وحراس العقيدة والفضيلة والأخلاق رأوا في محاضرتي دعوة إلى إفساد المرأة فشنوا حملة إعلامية بهدف تحذير الناس مني وتشويه صورتي لديهم، وساعدهم على ذلك عوامل عدة:

1- بيئة مجتمعية محافظة ومحكومة بموروث لا يرى أهلية المرأة للمشاركة العامة.

2- صغر المجتمع القطري مما يضخم أي أمر يتعلق بالمرأة أو يمس العرض أو السمعة.

3- مفاهيم دينية مشوهة عن "الاختلاط" و"عمل المرأة".

4- التوسع في تطبيق قاعدة "سد الذريعة" والتخوف المبالغ فيه من الانفتاح الاجتماعي.

5- ردود فعل مجتمعية مبالغ فيها ضد أي التقاء للجنسين سواء في ميدان العمل أو التعليم أو العبادة.

6- موروثات ثقافية تسيء الظن بحركة المرأة وخروجها في المجتمع.

اجتمع حراس الماضي للنظر في أمري فقال قائلهم: "ردوا عليه وفندوا شبهاته وبينوا سقطاته تحموا المجتمع من فتنة محاضرته، فتعرضت بعدها لهجوم جارح وغير مبرر، وتناولتني أقلام وألسنة غاضبة ومستنكرة جرأتي في ما سَموه الثوابت المجتمعية وخروجي على الأوضاع القائمة، لكني أشهد للتاريخ أن النظام السياسي القائم في ذلك الوقت لم يتعرض لي ولم يضيّق عليّ، ولم يتخذ أي إجراء تأديبي ضدي، وإن كان مزاجه العام مسايرة المؤسسة الدينية وعدم إغضابها مع ميله للمحافظة على جمود الأوضاع السياسية والاجتماعية ونفوره من الانفتاح الاجتماعي وكراهيته للتغيير السياسي والاجتماعي.

عشت أياماً صعبة وعانيت كثيراً، أتجلد وأصابر النفس، أحاضر في الجامعة، أسير في الأسواق، أغشى المجالس وأخالط الناس لكن الفكر مشغول والنفس مهمومة، وليس لي سند بعد عون الله تعالى غير أبوين ناصحين مشفقين عليّ من ألسنة الناس وتقولهم علي بالحق وبالباطل، كانت محنة لكنها قوّت عزيمتي وزادتني إصراراً بالتمسك بموقفي، ولم تمض إلا 4 سنوات حتى كانت محاضرتي الأخرى عن "عمل المرأة بين تعاليم الإسلام وتقاليد المجتمع"، فكانت أشد وطأً على حراس الماضي فكان هجومهم علي أشد واتهامهم لي أعظم، لكني لم أُلقِ بالاً ومضيت في طريقي أدعو إلى الله على بصيرة، فطالبت بأن تقود القطرية السيارة، وأن تكون لها مشاركات أوسع في المجتمع في العديد من المقالات. ودارت الأيام مسرعة إلى أن أشرق فجر عهد جديد على المرأة القطرية بتولي سمو الأمير مقاليد الحكم 1995، آمنت القيادة السياسية الجديدة بحقوق المرأة وتبنت سياسة إنصافها وتمكينها من حقوقها الشرعية التي قررها الإسلام وفق خطوات محسوبة ومتدرجة يتم فيها تهيئة المجتمع لقبول المشاركة العامة للمرأة، وكان لدعم سمو حرم الأمير ودورها الأثر الأكبر في ما تحقق للمرأة القطرية من مكتسبات تنعم بها اليوم، فأنشئ المجلس الأعلى للأسرة وصدر قانون متطور للأسرة وتم تنقيح التشريعات ذات الصبغة التمييزية ضد المرأة، وتولت المرأة القطرية مناصب قيادية: وزيرة ومديرة للجامعة وعميدة للكلية وقاضية وعضوة في المجلس البلدي، وشاركت في الانتخابات وقادت السيارة وأصبحت لها مشاركة واسعة، وهذه كلها كانت تعد من أكبر الكبائر في العهد السابق، كما لم تعد لكلمة الاختلاط ما يثير هواجس ومخاوف المجتمع.

وهكذا استطاعت القيادة السياسية تغيير المجتمع وتهيئته لقبول مشاركة المرأة، حتى "حراس الماضي" تطوروا وأصبح من بناتهم وقريباتهم من يقدن سياراتهن ويمارسن حقوقاً ووظائف كان آباؤهن يستنكرونها من قبل، وهذا ما أردت أن أصل إليه وأوضحه: إن التغيير الاجتماعي تابع للتغيير السياسي... لذلك فإن دعاة الانفتاح مهما سعوا فلن يحققوا أهدافهم إلا بقناعة السلطة السياسية بالتغيير الاجتماعي، لأن البيئة الاجتماعية العربية عصية على التغيير بفعل الموروثات والتقاليد، اليوم في أعقاب رياح التغيير على الساحة بفعل ثورات الربيع العربي، نجد التيار السلفي في مصر الذي كان رافضاً للعمل السياسي ومحرماً التظاهرات وتكوين الأحزاب السياسية، أصبح منغمساً في العمل السياسي، يقود المظاهرات ويكوّن أحزاباً سياسية لخوض معركة الانتخابات القادمة، وكذلك "الإخوان"، الذين كانوا يرفعون شعار عدم التحاور مع أميركا، وكانوا يخوّنون الأنظمة العربية المتحالفة مع أميركا، أصبحوا اليوم منفتحين على أميركا ويتحاورون معها، وشكلوا أحزاباً سياسية كانوا في الماضي يرفضونها، بل صرح بعضهم بحق المسيحي والمرأة في الترشح للرئاسة، إنها رياح التغيير التي هبت على المنطقة، ولم يجد حراس الماضي خياراً إلا أن يتطوروا ويتكيفوا.

* كاتب قطري