أطفالنا وجحر الضبّ
لعله من الحقائق البدهية أن مسألة التذوق الأدبي للنصوص المؤثرة والجميلة تبدأ من سن مبكرة عند الإنسان، وكأن تحسس الجمال في الكلمة والصورة وانخطاف القلب إزاء تعبير آسر أو جملة معبرة أمر فطري لا يحتاج إلى درس أو تمرين. ويبدو أن المناهج الدراسية في مراحل التعليم المبكرة لم تعِ إلى الآن هذه البدهية البسيطة، فأهملت مسألة التذوق الأدبي في الصفوف الأولى حين يبدأ الطفل بتعلم ألف باء اللغة ومهاراتها. وأعتقد أن استشعار جماليات اللغة وظلالها القريبة وتفاعلها الحار مع الحياة والمشاعر الإنسانية تبدأ مع الابجديات الأولى وتتأسس مع إيقاعها وتنمو بنموها. ومن هنا فإن العناية بانتقاء النصوص النثرية والشعرية وإخضاعها لميزان ذوقي سليم لابد أن يكون على رأس اهتمامات التربويين وواضعي المناهج.
ولكن يبدو أن الأهداف التربوية التقليدية لاتزال تراوح في مكانها، ولاتزال مسألة غرس القيم الخُلقية من خلال النصوص الشعرية والقصصية لها رعاتها والمدافعون عنها، بل إن الأمر يزداد سوءاً حين يتم تفصيل نصوص معينة على مقياس القيمة الخلقية وحسب الطلب! والنتيجة ما نراه من نماذج مثقلة بالرصانة العقلية ومدججة بجرعات مكثفة من القيم بأسلوب تعليمي وتلقيني فجّ، غير آبه بحقيقة أن الطفل غالباً لا يلتقط هذه المفاهيم حول القيم بنفسه، وإنما شارح الدرس هو الذي يضعها بشكلها الجاهز أمام الطفل. وهذا الاشتغال على غرس القيم فقط دون التحسس للأبعاد الفنية، قد يخلي حتى النصوص الجيدة والمؤثرة من آفاقها الجمالية والوجدانية ويحيلها إلى نصوص تعليمية متجهمة تفتقد الروح والإيحاء. وأعتقد أن تشرب القيم في سن الطفولة يمكن أن يتحقق من خلال التربية البيتية ومن المجتمع ومن تجارب الحياة ، وليس بالضرورة استقاؤها من مصدر وحيد وهو أدب الطفل. كنت أتمنى لو قام واضعو المناهج باستفتاء الأطفال حول ميولهم الذوقية أو سؤالهم عما يحبون وما لا يحبون من كتب ونصوص. وأكاد أجزم - من خلال تجربتي الشخصية في تربية أبنائي – أن إجابات الأطفال سوف تصيبهم بالدهشة والارتباك. وأستطيع أن أقول - من خلال معايشتي لأبنائي ومجايليهم حين كانوا في سن الطفولة- إن الطفل يميل عادة إلى كتب الفكاهة والمواقف الهزلية والمفارقات المضحكة، ويحب كراسات الرياضة العقلية واختبار القدرات كالألغاز والمتاهات وتجميع الكلمات المفرقة، ويعشق كتب المغامرة والإثارة وقصص الخيال العلمي، وتستهويه كذلك أقاصيص المواقف المحرجة والمقززة والمشاهد اللامعقولة. فأين علماؤنا التربويون من كل هذا؟ ومتى سيجتاز طفلنا العربي تلك الغربة النفسية مع كتبه الدراسية ومناهجه التي لا تلبي غير ذوق الكبار ورؤيتهم الخاصة للحياة؟! والحاصل أن هناك فجوة كبيرة بين التقليدية البائدة في مادة المناهج الدراسية وبين تسارعات الحداثة وتطور الأدوات الفنية في جميع أجناس الأدب والفن في العالم الحي. فالطالب عندنا قد يتخرج من الثانوية العامة وهو لا يزال يتلكأ عند مشارف القصيدة العمودية الكلاسيكية وعصر أحمد شوقي، ويبدو مُغيّباً عن المشاهد والإنجازات الأدبية في العقود المتأخرة. لقد اعتدنا أن نتعامل مع لغتنا وآدابنا كإرث محض، أو منجز ذي هوية راسخة لا تتزعزع. وأعتقد أنه آن الأوان أن نخرج من جحر الضب، وأن نتعامل مع لغتنا وآدابنا باعتبارها من الكائنات الحيّة المتفاعلة ومن الهويات المتناسلة مع روح العصر وإيقاعه وزخمه، وقبل ذلك أن نؤمن بإمكانياتها المذهلة على التجدد والمواكبة.