في البدء لننظر في "خارطة الطريق" التي يمكن أن تتمخض عن التطورات الجارية فيما يُسمى بثورات "الربيع العربي"، ففي ضوء هذه التطورات الجارية بعدد من الدول العربية يمكن "رؤية" ثلاثة احتمالات من المواجهة:

Ad

أولاً: مواجهة التوافق بين الدينيين والعلمانيين.

ثانياً: الصراعات "دون الوطنية" بين المذاهب والقبائل والطوائف بما يهدد مستقبل "الوطن" و"الدولة".

ثالثاً: محاولة الأنظمة القائمة زرع الإصلاح المتدرج والحفاظ على الدولة المدنية واستقطاب أطياف الصف الوطني المختلفة، وهو المشروع الجدير بالدعم والمشاركة، إذا سار حسب "الرؤية الإصلاحية".

نبدأ بالاحتمال الأول: وهو مواجهة التوافق بين الدينيين والعلمانيين ونتمنى أن يتحقق مثل هذا "التوافق".

ولكن، كما قال الشاعر:

ما كل ما يتمنى المرء يدركه تجري الرياحُ بما لا تشتهي السفنُ

والمدهش الغريب في الأمر أننا نسمع من الكتل الدينية المختلفة في البلاد العربية المختلفة استعدادها للخضوع لقوانين الدولة المدنية والتعايش مع العلمانيين، فهل هذا "تكتيك سياسي" أم "قناعة عقيدية"؟ وهل تنازلت هذه الكتل عن إيمانها الديني؟ ومن يملك أن يحرّم حلالاً أو يحلّل حراماً؟

وكيف يجوز لأغراض سياسية التنازل عن ثوابت دينية؟ إن الخشية أن يكون هذا "التنازل" مؤقتاً، ربما لمرحلة انتخابية واحدة، أو لجزء منها... ثم يظهر من وراء الأكمة ما وراءها! ويتم خلع الأقنعة وما نراه من بوادر صدام بين "الإخوان" والمجلس العسكري في مصر من مؤشرات ذلك. إننا ننظر إلى حدوث "توافق" نرجوه بين الجانبين في تركيا المسلمة، ولكنا نجهل التاريخ الحقيقي لهذا البلد، فعندما قرر "أتاتورك" اللجوء إلى الخيار العلماني في بلده، لم يكن ذلك مفروشاً بالورد، ولم يكن الطريق ممهداً للقيام بـ"نزهة سياسية".

لقد قاوم الشعب التركي المسلم "الخيار العلماني" لأتاتورك وكان "أبو الأتراك" يبطش بطشاً بمعارضيه، وكان أنصاره يتندرون بالقول: "إنها ديمقراطية ضد إرادة الشعب!"... لكن تخلف السلاطين الذين عزلهم أتاتورك وحكم طغيانهم الذي ذاق منه الشعب التركي والشعوب "العثمانية" الأخرى الأمرين، ثم إن قوة أوروبا "العلمانية" في ذلك الحين... كل ذلك ساعد "أتاتورك" في مسعاه، وكان ظهور طه حسين في مصر، من آثار الأتاتوركية عربياً، أما- إيرانياً- فقد تأثر بأتاتورك رضا شاه حسب ظروفه الإيرانية، وكان "كشف الحجاب" الذي فرضته السلطات الإيرانية على النساء- ومن ضمنهن النساء العربيات في ساحل لنجة وغيرها- من آثار تأثر رضا شاه، والد شاه إيران السابق محمد رضا بهلوي، بالتوجه العلماني في تركيا.

ولكن التاريخ الحقيقي للمنطقة يقول لنا إن الخديوي إسماعيل بمصر، كان السبّاق إلى إقامة الدولة المدنية، عندما أنشأ أول مؤسسة برلمانية عربية بمشاركة المسلمين والأقباط من أبناء مصر على قدم المساواة. وكان يطمح إلى جعل مصر "قطعة من أوروبا"... وذلك كان "طموح" النهضويين العرب جميعاً في تلك الفترة الحبلى. ومن يتأمل في هندسة ومعمار البنايات التي أقيمت في القاهرة في عهد الخديوي إسماعيل يستطيع أن يرى الطابع الفرنسي الأوروبي الذي تم اقتباسه بين مؤشرات عدة. غير أن أوروبا أخذت تفقد تأثيرها المباشر في العالم الإسلامي.

كتب الدكتور محمد حسين هيكل وزير المعارف بمصر وصاحب قصة "زينب" أول رواية عربية في مقدمة كتابه "في منزل الوحي" الصادر عام 1936: (حاولت أن أنقل لأبناء لغتي ثقافة الغرب المعنوية وحياته الروحية أنتخذها جميعاً هدى ونبراساً، لكنني أدركت بعد لأي أنني أضع البذر في غير منبته، فإذا الأرض تهضمه ثم لا تتمخض عنه ولا تبعث الحياة فيه... فرأيت أن تاريخنا الإسلامي هو وحده البذر الذي ينبت ويثمر، ففيه حياة تحرك النفوس وتجعلها تهتز وتربو... ومحمد بن عبدالله هو النور الأول الذي استمدت هذه الأرواح منه ضياءها... لذلك جعلت سيرته موضع دراستي "في منزل الوحي" ومصدر إلهامي لما تنطوي عليه من تعاليم أوحاها الله كلها "السمو والقوة والجلال والعظمة")- (محمد جابر الأنصاري- تحولات الفكر والسياسة بمصر ومحيطها العربي- مركز الأهرام للترجمة والنشر، ص67).

وقد ظل طه حسين متمسكاً بفكره الليبرالي إلى ما بعد صدور كتابه "مستقبل الثقافة في مصر" (1938) حيث رسم خطة تربوية شاملة لغرس هذا التوجه التحديثي في العقل المصري ذي الجذور المتوسطية "حسب قوله": "إن العقل المصري منذ عصوره الأولى عقل إن تأثر بشيء فإنما يتأثر بالبحر الأبيض المتوسط الذي يربط مصر بأوروبا". ويقول: "لا ينبغي أن يفهم المصري أن الكلمة التي قالها إسماعيل وجعل بها مصر جزءاً من أوروبا قد كانت فناً من فنون التمدح، وإنما كانت مصر دائماً جزءاً من أوروبا، فلنشعر كما يشعر الأوروبي ولنحكم كما يحكم الأوروبي... إلخ".

وإذا كان هذا الكتاب أقوى تعبير عن الليبرالية المصرية فإنه آخر تعبير على الأرجح عنها قبيل اضمحلالها، فكما لاحظ الباحث في سيرة طه حسين، كاشيا Cachia، فإن الكاتب فقد إبمانه بالقيم الليبرالية وحتمية انتصارها (في الفترة بين 1945– 1947) وإنه تعاطف مع اليسار والبروليتاريا في كتابه "المعذبون في الأرض" ملتقياً بذلك مع جمال عبدالناصر وممهداً لفكره "الاشتراكي".

وإذا كان سيد قطب قد رد على كتابه "مستقبل الثقافة في مصر"، فإن ذلك مؤشر على نوعية الاعتراض الديني على الدعوة الليبرالية المصرية (محمد جابر الأنصاري- "الفكر العربي وصراع الأضداد"، المؤسسة العربية للدراسات والنشر- بيروت، ص472- 474).

ظلت "الليبرالية" حيّة إلى وقتنا هذا، لكن التوجه الديني، نظراً لدعم الغرب المتواصل لإسرائيل وسقوط الدعوة القومية بعد هزيمة 1967م واضطهاد الدينيين من قبل الأنظمة العربية العاجزة، كل ذلك أصبح قوة سياسية لا يستهان بها. وعندما نحتكم إلى صناديق الاقتراع، فإن "العاطفة الدينية" لدى الجماهير تأتي لمصلحة هذا التوجه الذي رأينا انتصاره في تونس والمغرب ومصر... والحبل على الغارب. ويبدو أن الدوائر الغربية المعروفة بعدائها للتوجه الديني الإسلامي وجدت أنه حان الوقت لظهور هذا التيار والتظاهر بتأييده، كما دعمت في وقت سابق الانقلابات العسكرية على أساس أنها معادية للشيوعية. ونلاحظ أن تلك الانقلابات تظاهرت بتأييد الديمقراطية الشائعة في حينه إلى أن انقلبت عليها. كما يفعل الدينيون الآن، وإذا ما اضطر أصحاب التوجه الديني إلى "الاعتراف" بإسرائيل، في ظل الدعم الغربي لها، فمن يجرؤ على الاعتراض؟ ثم إن التيارات الدينية الحاكمة لن تتوحد ويظل الاصطراع قائماً بينها، مثلما تصارعت الناصرية مع البعث ومع نظام عبدالكريم قاسم في العراق! وأول ملامح الصراع الجديد ما نراه في انتخابات مصر بين "الإخوان" و"السلفيين"... وعلينا الانتظار لرؤية القادم! والمحصلة: أن "الشباب" تظاهروا في الشوارع والميادين كي تحصد الأحزاب الدينية أغلبية المقاعد في البرلمانات، ولا يبقى أمامها إلا المؤسسة العسكرية برؤيتها التحديثية، فالتجاذب بين هاتين القوتين هو الذي يقرر المصير.

والحكام الفاسدون الظّلَمَة الذين أطيح بهم، كانوا يهددون- قبيل سقوطهم- بأن البديل عنهم "الدينيون" الذين كانوا يحاربونهم فقووهم... كانت "كلمة حق أريد بها باطل"!

ولله في خلقه شؤون و... شجون!

* أكاديمي ومفكر من البحرين