يصعب علينا أن نضع فاصلا محددا بين مفهومي التراث والحداثة، حين يأتي الحديث على ذكر مهرجان الجنادرية الذي تتواصل فعالياته راهنا، شرق العاصمة السعودية الرياض، فهذا المهرجان الذي حمل على عاتقه مسؤولية ترسيخ التراث، باعتباره مكونا أساسيا من مكونات أي شعب يخطو نحو التحديث والمعاصرة، ولعل «التركيبة» الأساسية للمجتمع السعودي تحيلنا إلى ذلك النموذج الصارخ لصراع القديم والحديث، في ما يتعلق بالعادات والتقاليد، والخلفية الذهنية المكبّلة بقيود الماضي، بينما يسير العالم برمّته نحو التحديث الصناعي، والمجتمعي، ومعهما تتبدّل رويدا رويدا أنماط معيشة الناس في المدن والقرى المختلفة.
وحتى على المستوى السعودي ذاته يبرز هذا الصراع بين أنصار المعاصرة، وأولئك المتشبثون بمقولات السلف، تشبثا حرفيا دون النظر إلى متطلّبات المرحلة الراهنة، وتأتي في هذا السياق جملة قضايا شارحة أو مفسرة لقياس مدى التقدم نحو التحديث، ومن بينها المرأة، وإشكالاتها المختلفة من توظيف، وحضور مجتمعي، وتشريعي يتيح لها التحرر من قبضة الرجل، الذي قد لا يكون منصفا في كثير من الأحيان، ما لم يُجبَر على ذلك، وثمة قضايا أخرى من بينها الفتوى، وإشكالية «تقنينها» بعد أن تشعبت وأظهرت بونا شاسعا بين العاملين في الحقل الديني والدعوي أنفسهم، وكذلك القضايا الفقهية «العويصة» مثل المعاملات المالية، أو ما باتت تُعرف بالمصرفية الإسلامية، وحدود «الحلال والحرام» من هذه المعاملات، وكذلك قضايا حقوق الإنسان، وذلك «الظلم» الذي بات وصمة عار على كثير من الدول العربية والإسلامية.بالعودة إلى مهرجان الجنادرية في نسخته الـ 27، نجد تجاذبا خفيا بين متطلّبات المرحلة الراهنة «الصناعية والاقتصادية» تحديدا، وحدود التمسك بالتراث، وإلا ماذا يعني استضافة كوريا الجنوبية، وهي إحدى رموز التصنيع الرأسمالي المعاصر، في مهرجان، تنطلق فعالياته بسباق الهجن، وتعرّج على القرية التراثية، ومن ثم الرقصة الشعبية بعروضها المختلفة، ماذا يجمع بين كل هذا الزخم الشعبي، ومصانع التحديث الإلكتروني في مدينة سيول غير الرغبة الصادقة في دعم النقيضين، وهي رسالة أو إشارة مبطنة لندرك اختلاف العالم، وتغير مداركه وأحواله.وعلى المستوى المحلي والخليجي تحديدا يأتي ذلك الصراع الخفي بين أنصار الشعر الشعبي، وأولئك الذين يتمسكون بالقصيدة الفصيحة ليمنحنا هامشا تأمليا بين ركني التراث الشعبي، والكتابة باللغة «العليا» إن صح التعبير بكل ما تعنيه هذه الأخيرة من تقاليد علمية، ومواظبة على القراءة ومقاعد الدرس، فيما نجد القصيدة الشعبية مبنية بالدرجة الأولى على الذاكرة الشفاهية، حتى وإن ظهرت بعض دواوين مكتوبة بلغة شعبية، فهذه الإصدارات لا تصنع اللذة التي نجدها في السماع المباشر، كما ان الذاكرة الشعبية ليس بالضرورة أن تمر من بين أروقة الجامعات لتنال مشروعيتها، على النقيض تماما من الأدب الفصيح بأركانه المختلفة، الذي يتكئ في مشروعيته على الدراسة الجامعية أو الحضور الأكاديمي، دون إغفال للموهبة، وهي أصل الكتابة الإبداعية.تلك المفارقة الطريفة بين التراث وجمالياته، والحداثة ومتطلباتها هي العامل المشترك الذي يطغى على المشهد الثقافي السعودي برمّته، وليس في مهرجان الجنادرية فحسب، لننظر مثلا إلى مهرجان «سوق عكاظ»، وهو الآخر يحمل بين طياته رحلة سياحية نحو عصر ماض، يعد جزءا أساسا من مكونات الجزيرة العربية، وبين هذا وذاك نجد صراعات الأدباء السعوديين أنفسهم من أنصار الحداثة والمعادين لها، كتلك القضية التي ظهرت مؤخرا في مؤتمر الأدباء السعوديين، ما قيل إنه اختلاط سافر بين الرجال والنساء في بهو الفندق، قد لا تكون تلك قضية بالنسبة لأناس يعيشون خارج المملكة، إلا أنها تعد أحد أركان الصراع بين من يسعون نحو «المعاصرة»، وأولئك الذين يتشككون في نوايا المدنية الغربية وأنصارها من الكتاب والأدباء.
توابل
بين التراث والمعاصرة
12-02-2012