لا أنكر أن موجة «مابعد الحداثة» الغربية ظلت مشوشة في مداركي، بفعل «مابعد الحداثة» العربية التي شاعت لدينا في الفن والأدب. وبالرغم من سنوات المنفى الثلاثين في لندن، إلا أن «ما بعد الحداثة» الغربية هذه لم تقتحم علي سكينتي بصورة فظة. كنت أنا الذي أقتحم معاقلها في العروض الفنية، التي عادة ما تكون معزولة. هذا الأمر تلاشى اليوم بصورة لافتة للنظر. فهذه الموجة التي انطلقت شرارتها النظرية من إيطاليا، وحققت أول فعل لها في أميركا، عاشت عقدين من الزمان لا غير، بين 70-1990، كما حددها المعرض الاستعادي الذي زرته مؤخراً في متحف «فكتوريا وألبيرت».

Ad

رأيت المعرض مرآة تعكس مشاكسات جيل ضاق، لأسباب لا عهد لنا بها نحن، بقياد العقل. كان جيل الحداثة التي بدأت مطلع القرن العشرين يؤمن بصيغة بناء جديد. ولكن عناصر هذا البناء لا تتعارض جوهراً مع القديم. كان بيكاسو وسيزان على سبيل المثال في الرسم يُعنون بالتسلسل الهرمي، بالبراعة، وبالتصميم. في حين اعتمد ما بعد الحداثيين أمثال أندي ورهولوكُوننغبالكولاج، الصدفة، الفوضى، والتكرار. روائية حداثية مثل فِرجينيا وولف تتلذذ بالعمق، والبعد الميتافيزيقي. في حين يفضل الروائي ما بعد الحداثي مارتن أمِس المظهر السطحي والسخرية. في الموسيقى ظل الطليعي بيلي بارتوكشكلانياً يتعمد التفاصيل المركبة، في حين يميل جون آدمز إلى العبث والتفكيك. بمعنى آخر تفضل الحداثة التذوق، منطلقة من قارتها الأوربية إلى أفق كوني شامل. في حين تستوحي ما بعد الحداثة السلعة في السوق وتفضل أميركا.

ما يلفت الانتباه أن عناصر ما بعد الحداثة هذه كانت بذوراً كامنة في قلب حركة الحداثة، في العشرينيات والثلاثينيات. ولعل اسم مارسيل دوشامب كان الأبرز. إلا أن أفراداً على شاكلة دوشامب لم تكن كفيلة بتوليد حركة لم تحن ظروفها بعد.

المعرض الذي رأيته يتحلى بظرافة في حقل التصميم. ولكن هذه الظرافة مشوبة بميل إلى الكآبة واضح. لأن ما بعد الحداثة هذه ليست في حقيقتها إلا احتجاجاً لما يحدث، في الحياة الصناعية، وأسواق البورصة، وهيمنة السلعة. وفي سوق الفن بالذات، فحين تلاشت معايير الفن حلّت محلها معايير السوق.

كثير من أعمال الفن الذي رأيته يحتفظ بأثر من زمن الرفعة الكلاسيكية التي تعرضت للتهشّم، والتلاشي. قوة الحياة تستدعي الاستجابة بطاقة مماثلة، ولكن لتفكيك عناصر الحداثة التي سبقت: الهوية الواضحة، التقدم التاريخي واليقين المعرفي.

المعرض لم يكن بعيداً عن الإشارة إلى أن الفلسفة كانت عنصراً فاعلاً في هذه الموجة. والفلسفة في فرنسا دائماً. فالتفكيكية ليست إلا إثارة شك مثيرة لدلالة الكلمة المستخدمة. «لعبة اللغة» تجعل من كلمة «الحقيقة» ذات معانٍ غير محدودة، حين تنتقل من فم الكاهن إلى فم الشرطي، القاضي، البائع، الصحفي، الفيلسوف، الفنان...الخ. وهذا الشك بالمصدر المعرفي ينتقل من الفلسفي إلى السياسي بالضرورة.

دوار أنيق، إن صح التعبير، يكمن في جولتي بين القاعات نصف المضاءة لهذا العرض. دوار لأن كل ما وقعت عيني عليه من أثاث منزل، وفوتوغراف، ونحت، وفيديو، وأزياء.. يبدو قادماً من أفق مشاكس. أفق عابر كما تعبر السحب. أميركي مئة بالمئة. بعيد حتى عن الأوربي. ولذلك تبدو محاكاة المثقف العربي لهذا الفن، وهذا الأدب، وهذه الفلسفة تهريجاً مضحكاً.

في آخر المعرض نص ختامي، كتلك النصوص التي تتكفل بالتعليق على كل قاعة ومرحلة، يقول بأن هذه الموجة التي أرادت أن تهشم كل العناصر التي اعتمدتها الحداثة، تعرضت هي ذاتها للتهشم والتلاشي. ولكن أحداً منا لا يستطيع أن ينكر بأنه كان ما بعد حداثي، بصورة من الصور.

لا شك أن كثيراً من رواد المعرض الغربيين أجابوا بنعم. لم أستطع أن أكتم إجابتي من بينهم: «ولكن لست أنا!»