عندما تنادي الرواية الكاتب، ليس عليه إلا الإجابة والطاعة وتلبية النداء الذي ليس له أي مفر منه، حتى وإن رغب الكاتب في الفرار فلن يستطيع ولن يملك حق الهروب من النداء اللحوح، الذي لن يسكن ولن يهدأ إلا في حالة الرضوخ للطلب، وأحيانا يكون النداء سريا وخفيا، وأحيانا يكون واضحا جليا.
ونداء روايتي «سلالم النهار» التي مُنعت ورفُعت من دار منشورات العين في معرض الكتاب المقام في الكويت لهذا العام 2011 ولم تُعط ترخيصا للعرض في المعرض وسُحبت منه بأمر الرقيب، جاءني نداؤها بطريقة سرية غامضة، فمنذ ثلاث سنوات قررت فجأة أن أقوم برحلة إلى ولاية «مسندم» العمانية المطلة على مضيق هرمز، ولما سألتني ابنتي عن سبب زيارتنا لها خاصة أنها ليست معروفة على مستوى السياحة العربية، أجبتها بأني لا أدري سبب الزيارة، لكن هناك إحساسا غامضا يدعوني ويجرني إلى ذلك المكان.وكان نداء الرواية السري هو الذي أدار المؤشر إلى ذلك المكان بشكل خفي وغامض، ولم يكن لدي أي فكرة عن موضوع روايتي «سلالم النهار» في ذاك الوقت، لكن وحشية وبراءة وطهارة المكان أشعرتني أن لي علاقة ما بهذا المكان وأن تباشير الرواية مزروعة فيه.بعد أن انتهيت من كتابة الرواية في هذا العام وجدت ولاية مسندم قد حلت فيها، وهذه هي طريقتي في الكتابة، فكرة غامضة أو الهام أو نداء سري ينبثق فجأة من الداخل، ويبدأ في مرحلة النمو السرية البعيدة عن إدراكي بشكل واع وملم بكل الحكايات وبتفاصيلها.ولكل شيخ كما يقولون عمة أي أسلوب وطريقة مختلفة في الكتابة، فهناك من يستولد الكتابة وهو جالس على مكتبه، وهناك من تكتبه الكتابة، وأنا من النوع الثاني، أي أنها تأتيني من بعد اختمارها الذي غالبا ما يأخذ ثلاث سنوات لتنضج فيها الرواية، وتفرض عليّ طبيعتها الكاملة التي تحدد وتملي مسار الكتابة وهويات الشخصيات الروائية بصفاتهم وطبيعة سلوكهم وعاداتهم أيضا، وهذا يتطلب مني الرضوخ لما يُملى عليّ من كتابة تشكلت في عدد من السنوات الصامتة والمرقدة في كمون سري، حتى تتشكل وتتحدد وتكتمل ملامح من يحيا بها، ثم تولد كما تريد هي وليس كما أريد أنا، مهما حاولت أن ألجمها وأخضعها للرقيب الذاتي والرقيب العام المتمثل في رقابة وزارة الإعلام ورقابة العرف الاجتماعي، لكني أجدني عاجزة عن امتلاك تلك القوة المطلقة المسيطرة على ميزان العمل الروائي بشكل كامل، فجزء كبير منه يتشكل بحسب احتياجات العمل ذاته بذاته ليتحقق التوازن الفني والأدبي والجمالي في بناء السياق الحياتي المطلوب لسيرة العمل.الرواية عالم يبني ذاته بشكل يتوافق مع طبيعة حياة أبطاله وصفاتهم وطبيعتهم، لذا حين تأتي رقابة فليس لها أي سيطرة على عمل اتسق مع متطلبات كل تفاصيله التي فرضت شروطها ليكتمل لها البناء الناجح، وانسجمت مع كامل شروطها التي قد تتضارب مع شروط الرقيب.الرواية لها مسارات فنية شكلت لها حياتها وحياة من فيها خارج عن رقابة الكاتب الذاتية، وعن رقابة الرقيب، لذا تم منعها من الرقيب في زمن باتت فيه الرقابة من مخلفات عصر بائد.وما هي أهمية الرقابة التي تُفرض على عمل أدبي فني اتسق مع شروط خلقه وتشكله؟المشكلة تأتي من تعدد مستويات التلقي في النص، فهناك المستوى السطحي البسيط إلى الأكثر تعقيدا والأصعب في الإدراك والفهم.فعند مستوى التلقي البسيط لا يدرك المتلقي أهمية ومدى عمق المعنى المراد إيصاله إلى القارئ العادي، لذا يساء فهم النص وفهم المعنى القابع فيه، خاصة إذا كانت اللغة أيضا تحمل معاني متأرجحة ما بين التأويلات والتفسيرات المختلفة.النص الأدبي يجب أن ُيقرأ بتأن وفهم لكل سلوك، ولكل فعل من مجريات حياة النص وأبطاله، فالسلوك والأفعال ليست مجانية أو مجرد حشو فارغ، بل إنها المتطلبات الحقيقية لحياة نص حقيقية، وهي التي تكشف كل شخصية من شخصيات الرواية على حدة، ويجب المحافظة على نقلها وكتابتها بكل أمانة وإيصالها كما تتطلب شروط الأمانة وليس كما يتطلب مقص الرقيب.
توابل
سلالم النهار والرقيب
31-10-2011