من سيساعد الفقراء؟
مع تفاقم الأزمة الاقتصادية وتعاظم احتمالات الانزلاق إلى فترة أخرى من الركود، باتت مسألة التفاوت الاجتماعي تشكل قضية متزايدة الإلحاح، كيف إذن قد يتسنى للمرء أن يعزز من روح التضامن والمسؤولية داخل البلد الواحد؟ وكيف نحمي الأشخاص الأكثر ضعفا؟
بينما كنت أتأمل هذه القضية، تذكرت تلك المناقشة التي دارت قبل أكثر من عشرة أعوام بيني وبين عالم اللاهوت الألماني هانز كنغ وعدد من المشاركين الأميركيين والآسيويين، وكان موضوع المناقشة «العولمة والأخلاق»، أو على وجه التحديد المقارنة بين السبل التي تستعين بها أوروبا والولايات المتحدة وآسيا لحماية الأعضاء الأكثر ضعفاً في مجتمعاتها.وقد اتفق كل المشاركين على أن الدولة في أوروبا تولت تقليدياً الدور الذي يلعبه محبو الخير المنتمون إلى القطاع الخاص في الولايات المتحدة والذي تلعبه الأسرة في آسيا. ولكننا سارعنا جميعاً إلى إضافة حقيقة مفادها أن أياً من النماذج لا يتسم بالنقاء المطلق، أي أن الأسرة في آسيا لم تعد كسابق عهدها، والآن تلعب الدولة دوراً أكبر من المتوقع في أميركا، وأصبح أداؤها ضعيفاً في الكثير من الأحيان في أوروبا. ومنذ ذلك الوقت أصبح الواقع أكثر تعقيدا: فدور الأسرة مستمر في الانحدار في آسيا؛ والعمل الخيري توقف عند حدود معينة في الولايات المتحدة، على الرغم من وجود قِلة من الأفراد الذين يتسمون بقدر غير عادي من السخاء؛ أما الدولة في أوروبا، بالاستثناء المحتمل لدول الشمال، فقد أصبحت مثقلة بالديون، ولم تعد تمتلك ما يلزم من الوسائل أو الإرادة لتحمل المزيد من المسؤوليات. من إذن قد يأخذ على عاتقه مسؤولية حماية الأشخاص الأكثر ضعفاً إذا لم يكن بوسع أي من هذه الجهات الثلاث أن تتحملها على النحو اللائق؟ وهل نتجه نحو عالم يوحده العجز المشترك وانعدام الكفاءة؟ في العالم الغربي، كان الأكثر فقراً هم الأشد تضرراً بالركود الاقتصادي. ولكن في بلدان الأسواق الناشئة الأسرع نموا، يميل الأثرياء إلى إغماض أعينهم إزاء معاناة الأشخاص الأكثر فقرا، إلا عندما تهددهم مخاطر الاضطرابات السياسية، كما هي الحال في المملكة العربية السعودية على سبيل المثال.الواقع أن أهل النخبة الثرية في البلدان الناشئة يعيشون حالة من التنكر لفقرائهم، ويتجاهلونهم حرفيا، ومن الأمثلة الصارخة في هذا السياق البرازيل والهند. فالنمو الاقتصادي ضروري، ولكنه ليس كافياً في حد ذاته: بل يحتاج الأمر أيضاً إلى إحساس قوي بالمسؤولية الاجتماعية. من السخف أن نسارع إلى إدانة العولمة، كما يفعل البعض، بوصفها الجاني الرئيس والوحيد فيما يتصل بتآكل الموارد التقليدية لدعم الفقراء. ذلك أن العولمة في المقام الأول عبارة عن سياق وبيئة، حتى لو تسببت العواقب المترتبة على أول أزمة مالية واقتصادية كبرى في عصر العولمة في تعميق الفجوة بين أكثر الأثرياء ثراءً وأشد الفقراء فقرا. ولكن العولمة تجعل الأضعف بيننا أكثر وضوحا، وبالتالي تزيد من عدم قبول الناس لغياب العدالة الاجتماعية. إن العالم الأكثر شفافية والأشد ميلاً إلى الاعتماد المتبادل يضع على عاتق الأغنياء المزيد من المسؤوليات، أو بتعبير أكثر دقة، يجعل المسؤوليات القديمة المتمثلة بحماية الأشخاص الأكثر ضعفاً أشد صعوبة وأكثر إلحاحا. وفي عالم يتسم بالتعقيد المتزايد، ربما كانت الحلول البسيطة هي الأمر المطلوب. فبوسعنا على سبيل المثال أن نتبع مبدأ آدم سميث في الميزة النسبية: فالجانب الأفضل في أوروبا هو الدولة، في حين لا تزال آسيا تعتمد على الأسرة، وتستمر الولايات المتحدة في التركيز على المبادرات الفردية. والمشكلة أن شرعية الحلول في عالم المقاييس العالمية سوف تكون نابعة أكثر من أي وقت مضى من مدى فعاليتها وقبولها بين الناس على المستوى الثقافي. ففي أوروبا الغربية على سبيل المثال، تتعارض دعوة كل المواطنين إلى التضحية من أجل حل مشكلة الديون مع تصور قديم مفاده أنه لا ينبغي للجميع أن يساهموا بنفس القدر، وأن عدم المساواة سوف يتفاقم بسبب التقشف. إن استعادة النمو في الأمد القريب، ومعالجة مشاكل الديون في الأمدين المتوسط والبعيد، قد تشكل الاستجابة الوحيدة الصالحة للأزمة.ولكن هذه الاستجابة لن تنجح في أوروبا أو أي مكان آخر، من دون التأكيد بشكل أكبر على العدالة الاجتماعية، فرغم أن بعض أثرى الأثرياء يتذمرون، كما فعل وارن بافيت أخيرا، لأنهم لا يدفعون القدر الكافي من الضرائب، فإن هذا السخاء المستنير من جانب هذه القِلة السعيدة من الأشخاص- الذين يريدون إنقاذ الرأسمالية من الليبرالية- من غير المرجح أن يقلدهم الأثرياء الجدد في البلدان الناشئة، ناهيك عن الأثرياء في أماكن أخرى. ودعونا نكن واقعيين: فالأشخاص من أمثال بِل غيتس وبافيت يتبعهم قِلة قليلة من الناس حتى بين فاحشي الثراء في الولايات المتحدة. وهل تتمكن المجتمعات الآسيوية حقاً من إحياء ذلك الشعور الفعّال بالمسؤولية الأسرية؟يبدو أن العولمة كانت سبباً في إضعاف الاختلافات الثقافية بشكل ملحوظ في العقد الماضي، ولكن عندما يتعلق الأمر بحماية الأكثر ضعفاً والكفاح ضد الظلم الاجتماعي المتزايد، فلعل «هجر الثقافات القديمة» على مستوى العالم يؤدي إلى خلق الفرصة للجميع بين أفضل ما تبقى من تقاليد بعينها، وربما كان لزاماً على الدول أن تسعى إلى إقامة أنظمة الرعاية الاجتماعية لديها على أساس جديد يتألف من الدولة والأسرة والعمل الخيري.* دومينيك مويزي | Dominique Moisi ، مؤلف كتاب «الجغرافيا السياسية للعاطفة».«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»